حنبعل أسود.. هل تحاول نتفليكس تزييف التاريخ أم تصحيحه

الفيلم يثير الجدل حول علاقة الخيال الفني بالمصداقية التاريخية.
الجمعة 2023/11/17
دنزل واشنطن يجسد شخصية حنبعل

في الأعمال التي تستعيد شخصيات من التاريخ، تبقى العلاقة بين الفن بما هو خيال والتاريخ بما هو أحداث حقيقية، علاقة متقاطعة وفيها الكثير من الجوانب المثيرة للنقاش، خاصة إذا اختار منتجو الأعمال الفنية كسر الصور الراسخة والمتوارثة، في محاولة لاستنطاق التاريخ لا روايته فحسب.

كرست رسوم الأيقونات على جدران الكنائس صورة نمطية للمسيح النحيل ببشرته البيضاء وبلحيته الصهباء وعينيه الفاتحتين وأنفه الطويل، رغم عدم التطابق بين صفاته المتخيلة تلك وصفات أهل الشرق الأوسط، وجاء الممثل البريطاني روبرت باول مشابها للرسوم الأيقونية للمسيح لذا أدى دوره في السينما، وصارت صورة الممثل تعني حرفيا المسيح في المخيال العام.

الدراما والسينما أكثر انتشارا وتأثيرا من الرسوم والجداريات، لذا فقد كرست صورا لشخصيات تاريخية عديدة إضافة إلى المسيح، فصاغت ملامحها وفق تصورات منتجي العمل.

عربيا مثلا إذا ذكرنا شخصية مثل الحجاج بن يوسف الثقفي، فنحن مباشرة نتخيله في ملامح من أدى شخصيته الممثل السوري عابد فهد، بتلك الملامح القاسية واللحية الصهباء الكثة، كذلك الأمر لو تخيلنا شخصية مثل حمزة عم النبي محمد، فسيحضر عندنا وجه الممثل المصري عبدالله غيث في النسخة العربية من فيلم “الرسالة” والممثل الأميركي أنتوني كوين في النسخة العالمية.

فيلم “الرسالة” بدوره تحول إلى وثيقة تأريخية يستند عليها أغلبية المسلمين في فهم الرسالة المحمدية ونشأة الإسلام، رغم أنه عمل فني يستند إلى التاريخ نعم، لكن فيه الكثير من الخيال ومن رؤى أصحاب العمل في نهاية الأمر. الفن وسيلة لكتابة التاريخ إذن، لكن لا كتابة جامدة بل مفتوحة لتعدد القراءات.

التاريخي والفني

أعمال تستعيد شخصيات لها وزنها في التاريخ
أعمال تستعيد شخصيات لها وزنها في التاريخ

مؤخرا أعلنت منصة نتفليكس عن إسناد دور القائد القرطاجي الشهير حنبعل في فيلم تنوي إنتاجه عن شخصيته إلى الممثل الأميركي دنزل واشنطن ذي البشرة السوداء، ما أثار جدلا ما انفك يتسع حول مدى الالتزام التاريخي بشخصية مثل حنبعل، ووصل الأمر ببعضهم إلى اتهام المنصة بتزييف التاريخ، وانطلقت النظريات المعتادة حول المؤامرات وغيرها.

دار جدل سابق حول أداء نفس الممثل لدور القائد الأسكتلندي ماكبث، الشخصية الحقيقية التي كتبها شكسبير بروح مغايرة، ووجد الكثيرون في ذلك غرابة لكن تبرير الاعتماد على نص مسرحي خيالي كان لصالح منتجي العمل الذي لا يعتبر عملا تاريخيا مثل الفيلم حول حنبعل.

هناك من يرى أن حنبعل فعلا رجل أسود، ولذلك منح دنزل واشنطن الدور، وهنا نتحدث شكليا بعيدا عن خبرة وقدرات الممثل الكبيرة التي لا مجال لنقاشها هنا، ويعتمد هؤلاء، وفق بعض المختصين، عن قطعة نقدية وجدت في إيطاليا تحمل نقش الفيل الشهير في النقود التي سك عليها وجه حنبعل، وتظهر شفتاه أنه رجل أسود، لكن لا دليل أكيدا على أن الوجه على القطعة النقدية هو لحنبعل، خاصة مع وجود قطع أخرى مغايرة تماما.

هناك آخرون يقرون أن حنبعل لم يكن أسودا استنادا أيضا على نقوش لوجهه على قطع نقدية ولقى أثرية نسبت إلى أنها تصور القائد القرطاجي.

جدل النظريات التاريخية قد يرجح كفة الخيار الثاني نظرا إلى أصول القرطاجيين الفينيقية وإلى سمات سكان شمال أفريقيا، وتونس تحديدا، وهم أصحاب بشرة قمحية وملامح متوسطية، ولكن هل علينا الالتزام بالتاريخ بحذافيره ونحن نعيد سرده؟

لا شك أن أي عمل فني يحاول استعادة التاريخ عليه قبل كل شيء أن يحقق أمرا ضروريا هو المصداقية، إذ لا مجال للتلاعب بالتاريخ والأحداث، وهو ما يحدث للأسف في كثير من الأعمال التاريخية، وخاصة تلك التي تستعيد شخصيات مؤثر ومعروفة، فتسقط في التمجيد أو التشويه، ولنا الدليل في شخصيات مثل هتلر ومالكوم إكس وأنور السادات وغيرهم ممن استعادتهم السينما العالمية والعربية، وقد أثارت الجدل حول مدى صدق ما قدمته.

في النهاية لا يمكن إعادة التاريخ بحذافيره، كما هو، خاصة وأننا لسنا إزاء عمل وثائقي، وحتى العمل الوثائقي نفسه، لا يستعيد التاريخ بطم طميمه بل يقترب منه دون مبالغة في الإضافات، ويحاول قدر الإمكان تحقيق الموضوعية، أما العمل الروائي على غرار الفيلم المقرر إنتاجه حول حنبعل، ففيه مساحة كبيرة للخيال واللعب الفني والجمالي وتقديم تصورات منتجي العمل، خاصة المخرج الذي أسندت إليه المهمة أنطوان فوكوا، وخاصة كاتب العمل الأميركي جون لوجان.

من ناحية أخرى فقد دخلت أساليب جديدة في الأعمال التاريخية لا تلتزم بالحدث بشكل متطابق وقد تعيد تقديمه حتى بوسائل الذكاء الاصطناعي، إذ الغاية من سرد التاريخ ليست مجرد سرده ولو بشكل مشوق، وإنما خلق قراءات مغايرة له، والتحفيز على التفكير في التاريخ وبالتالي بناء تصورات أكثر اتساعا من الرؤى المنغلقة، إذ يرى هؤلاء أن التاريخ ليس حلقة مكتملة، دائما هناك ما هو ناقص من القصة، وبالتالي هناك ما يدعو إلى إعادة التفكير والقراءة.

كتابة التاريخ

الفيلم المقرر إنتاجه حول حنبعل فيه مساحة كبيرة للخيال واللعب الفني والجمالي وتقديم تصورات منتجي العمل

كان من المفترض أن تحاول نتفليكس تشكيل فريق من المؤرخين بداية من التونسيين إلى الإيطاليين لتشكيل وجهة نظر متماسكة حول شخصية حنبعل وحول الحرب التي خاضها ضد روما التي حاصرها وبث الرعب في قلوب قادتها وسكانها.

لنعد قليلا إلى التاريخ، ما خلد اسم حنبعل ليس انتصاراته على روما فحسب، بل تكتيكاته العسكرية وشجاعته ورؤاه التي تتجاوز المألوف، فمثلا كانت قيادة جيشه رفقة الفيلة عبر جبال الألب الوعرة والباردة للوصول إلى روما وحصارها رغم فقدانه لعدد كبير من جيشه، قصة لا مثيل لها في تاريخ المعارك والحروب، التي هزت الإمبراطوريات القديمة ما قبل الميلاد.

خمسة عشر عاما قضاها القائد القرطاجي محاصرا روما، وصار شخصا تخيف باسمه الأمهات الرومانيات أطفالهن، وتحوّل إلى كابوس بالنسبة إلى الإمبراطورية الرومانية. لكن ترى كيف تخيل الأطفال الرومانيون حينها شكل حنبعل من خلال ما تخيفهم به أمهاتهم؟ ربما كانت صورة حنبعل الوحش والقاتل والمتربص هي الدارجة. بينما لو تسأل أي تونسي اليوم عن تصوره لحنبعل سيصوره بطلا متين البنية، ببشرة قمحية، ولن يتخيله رجلا أسود.

يمكن للعمل الفني أن يبني تصورات خيالية ويسرد القصة من زوايا غير مطروقة من قبل، وقد يكون ذلك الهدف من اختيار ممثل مهم مثل دنزل واشنطن رغم عدم تطابقه مع شخصية حنبعل التاريخية، لكن هل يخلو ذلك من توجه فكري مسبق لمنتجي العمل؟ ألا يسعى هؤلاء إلى كسر صورة حنبعل المتوارثة بين الأجيال وتغييرها؟ ثم لماذا هذا التغيير؟

لا شك أن أي عمل فني يحاول استعادة التاريخ عليه قبل كل شيء أن يحقق أمرا ضروريا هو المصداقية

 ربما ترسخت عبر الكثير من الأعمال، التي لا تَخفَى نظرتها العنصرية والاستعلائية، أن صورة السود في التاريخ هم عبيد فقط، وليسوا قادة، وهي صور مغلوطة تحاول الأعمال السينمائية والدرامية وحتى أعمال الكوميكس المعاصرة اليوم تصحيحها بأساليب مختلفة.

وربما يكون منح دنزل واشنطن دور البطولة أيضا عائدا إلى كون مخرج العمل أنطوان فوكوا هو بدوره من السود، وقد يكون له رأي مسبق يريد تمريره من خلال الفيلم. وهذا أمر آخر ستدور حوله نقاشات وسجالات المتابعين، رغم أهميته في توجه الرؤى لإعادة قراءة التاريخ دون عنصرية.

لقد كسرت الفنون الصور النمطية لعدة شخصيات تاريخية، الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو مثلا رسم المسيح سمينا، وغير بالتالي سردية بأكملها. انتصر للبدناء الذين أنهكت الموضة وتيارات السوق وصور الرشاقة النمطية الزائفة أرواحهم بنعتهم بالقبح. إن الفن في النهاية انتصار للإنسان في تنوعه.

إن التعسف على كبح الخيال في سرد التاريخ يجعل العمل الفني ميتا، مجرد تكرار، لكن من ناحية أخرى كتابة قصة قائد مؤثر مثل حنبعل وإنجازه من فريق بعيدا عن البيئة الحقيقية للشخصية التاريخية، وبعيدا عن آراء المختصين من التونسيين والإيطاليين، خاصة وأن الفيلم يسعى لتصوير معارك حنبعل في روما، هو أمر قد يسقط العمل في ضعف المصداقية، وبالتالي قد يضعفه ككل، ففي النهاية هي معادلة صعبة وشاقة بين الخيال والصدق والواقعية والحبكة ما يضمن لعمل من هذا النوع نجاحه.

13