سرديات رغم التبرير تستحضر غزة في السينما من سبعينات القرن الماضي

منذ سبعينات القرن الماضي ومع الإقبال الكبير من العرب على السينما ومتابعة الأفلام الفلسطينية، بدأت بعض الأسماء الفلسطينية في العمل على أفلام واقعية توثّق الأحداث وتروي قصصا ذاتية وجماعية تدور كلها في فلك القضية الفلسطينية، تدافع عنها وتنقلها إلى العالم، ملتزمة بطرح الكثير من الأسئلة التي لم يُجَب عنها بعد.
تحت عنوان “سرديّات رغم التبرير”، أطلقت منصة الفيلم الفلسطيني، التابعة لمؤسسة الفيلم الفلسطيني، عبر موقعها الإلكتروني، “سلسلة أفلام تحتفي بجمال غزة وشعبها، وكفاحها وبقائها، بهدف الوقوف في وجه شيطنة هذا المكان الجميل”.
أُنتجت الأفلام المعروضة في فترات مختلفة، منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وحتى عام 2019، لمخرجين فلسطينيين من غزة وجغرافيات أخرى داخل وخارج فلسطين، ولمخرجين من جنسيات مختلفة.
كل هذه الأفلام، تجتمع حول غزة والحياة داخل “أكبر سجن في العالم”، وتطور أشكال الحياة وسلوكيات أهالي المدينة، وسرديتهم التاريخية وروايتهم للتاريخ والأحداث وكيفية تعايشهم مع الحرب وصوت القذائف الذي تحول إلى حدث يومي.
أقدم الأفلام المعروضة هو “مشاهد من الاحتلال في غزة” (1973)، ويندرج في إطار أفلام الثورة الفلسطينية، وهو من إخراج الراحل مصطفى أبوعلي. كذلك يعرض فيلم “غزة غيتو” (1985) من إخراج بي هولمكويست وجوان مانديل وبيير بيوركلوند، والذي يعتبر من أوائل الأفلام الوثائقية المنتجة في غزة.
من حقبة التسعينات، يعرض برنامج “سرديّات رغم التبرير”، الفيلم الروائي “حكاية الجواهر الثلاث” الذي صدر لأول مرة عام 1995 للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، أحد مؤسسي السينما الفلسطينية الحديثة.
والنسخة التي تعرضها منصة الفيلم الفلسطيني هي نسخة مرممة عرضت للمرة الأولى عام 2020، وذلك ضمن مبادرة المنصة لعرض أفلام روائية ووثائقية فلسطينية وبشكل أسبوعي عبر موقع مؤسسة الفيلم الفلسطيني وصفحتها على فيسبوك. وتعيد المنصة عرضها إلى جانب أفلام فلسطينية أخرى على إثر الأحداث الحاصلة في غزة.
يتمحور “حكاية الجواهر الثلاث” حول حكاية يوسف، الطفل ابن الثانية عشرة، الذي يعيش في واحد من مخيمات اللاجئين في قطاع غزة، خلال انتفاضة الحجارة التي اندلعت عام 1987 مع والدته وشقيقته، حيث والده أسير في سجون الاحتلال، وشقيقه مطارد من قبل جنود الجيش الإسرائيلي، فيجد ملاذه في اصطياد العصافير، قبل أن يقع في حب فتاة غجرية تدعى عايدة.
كان هذا العمل حين تصويره أول روائي طويل يصور بأكمله في قطاع غزة، تجولت من خلاله كاميرا ميشيل خليفي في أمكنة “غزاوية” تحدد هوية سكان المنطقة، نمط حياتهم، ومستوى معيشتهم، وتعري مخاوفهم ومعاناتهم اليومية في مواجهة قوات الاحتلال. لكنها لا تكتفي بذلك، إنما هي تصور أحلامهم وطموحاتهم وتقف معهم وقفة تأمل للغد الجميل، الذي لم يأت بعد، فهذا الفيلم، وغيره، وإن منح خليفي شهرة واسعة في الأوساط الفنية والسينمائية ومنحه جوائز مهمة، فهو لا يزال صالحا لزمننا الحاضر رغم كل التطور الذي طرأ على الحياة، من تكنولوجيا وغيرها، إلا أن الحال في غزة لم يختلف كثيرا، لا تزال تحت القصف وليوسف أشباه كثيرون يحلمون ويقاومون ويعيشون صراعا بين ما فرض عليهم وما يطمحون إليه.
منذ أن يقع يوسف في غرام عايدة، تتكشف لنا روابط الحكاية التي تتأسس على الموروث الشعبي بدءا من قصة شمشون وليلى وصولا إلى الجواهر الثلاث المفقودة من عقد جدتها المريضة، التي تطلب منه إيجادها حتى يتزوجها، وتقول له إنها فُقدت في أميركا الجنوبية. فتتحول حياته إلى رحلة سعي نحو الهجرة، وإن كان ذلك تهريبا داخل صندوق للبرتقال معد للتصدير نحو أوروبا.
ولا ينسى خليفي أن يمر على ذكرى حرب الأيام الستة وكيف منع أهل غزة بعدها من النزول إلى البحر حتى نسوه وهو لا تفصلهم عنه إلا أمتار قليلة.
في هذا الفيلم، تمتلك كل شخصية حلمها الخاص، ففي حين يحلم سمير أخو يوسف بالانتصار على العدو وخطبة حبيبته، وتحلم أمه بتحرر والده من الأسر، ويحلم الجار الأعمى بوصول رسالة تعويض مادي له، يحلم يوسف كل ليلة بالحرية، لكنها حرية تأتيه تدريجيا على شكل دروس يسردها عليه طيف والده، يتشكل له تارة في هيئة صلاح الدين الأيوبي، الفارس المغوار، وطورا في هيئة شيخ حكيم يعلمه دروسا عن الحياة والمكان والحرية والجسد.
لكن الفيلم لا يغادر عدة عناصر واضحة، يستعرضها كعناصر مشتركة بين أبطال الرواية، وهي الحب، والأرض، والمجتمع، والذاكرة، والحرية، والحلم، والعلاقات والمقاومة من أجل الحياة.
في هذا الفيلم، يحضر الخيال بطريقة ساحرة للتعبير عن الواقع الفلسطيني المعيش والمستمر حتى يومنا هذا. وهو “يحكي للجيل الحالي في غزة حال أهلهم في التسعينات” كما يؤكد مخرج العمل.
وبينما كان في السابق يطرح بعدسته السينمائية احتمالات المستقبل، صارت أعماله اليوم تحيلنا إلى حقائق الماضي، مميزات الواقع والحياة آنذاك، والتي دخلت في حلقة مستديرة، لايزال البعض منها يتكرر إلى اليوم. كما استطاع في هذا الفيلم أن يعيد صياغة الواقع بتمثل الهواجس المتراكمة ومحاولة الإجابة عن أسئلة مازالت مفتوحة.
يختلط الواقع مع الحلم في مخيّلة الطفل وفي الفيلم، كون خليفي، بحسب حديث له، يرغب بإعادة جمال الحياة للطفل والأمل بالمستقبل، وسط كلّ الظروف الصعبة والمروّعة التي يحيا في ظلّها. هذا الواقع الذي تحضر فيه الطيور، وتحديدا طير الحسون، كرمز للحرية والانعتاق، وللأنفس البشرية التي تطير بعيدًا بعد الموت، كما هو حال شباب غزة. هذا الطير رافق الفتى يوسف في زمن الفيلم، حيث كان يهوى اصطياده، ورغم تخليه عنه تضحية في سبيل العائلة والحبيبة، إلا أنه كان رفيقه في رحلة التحرر من رغبته في الخروج من غزة، والتخلي عن الأهل والأحبة.
ورغم مظاهر الحياة الصعبة لأهل غزة التي أظهرها بكل واقعية، إلا أن فيلم “حكاية الجواهر الثلاث” يصر على إضاءة فسحة أمل، في الفيلم وخارجه. إذ حاول ميشيل خليفي أن يملأ العالم الوهمي الذي لجأ إليه الفتى يوسف بالتشويق والفضول والانتظار والتفاعل الإنساني.
في فيلم ميشيل خليفي يحضر الخيال بطريقة ساحرة، معبرا في الآن ذاته عن الواقع الفلسطيني المعيش
يذكر أن ميشيل خليفي الذي حمل على عاتقه تصوير الواقع الفلسطيني وسرد الرواية الفلسطينية وتفاصيلها المغيبة عن العالم الخارجي، ولد في الناصرة عام 1950 لعائلة كادحة، في عمر الرابعة عشرة اضطر إلى مغادرة المدرسة والعمل في مرأب سيارات للمساعدة في إعالة العائلة. بدأ يهتم بالفن المسرحي أثناء المراهقة وغادر إلى بلجيكا عام 1970 لدراسة المسرح. تخرج عام 1977 من معهد المسرح والسينما في بروكسل. عام 1978 عمل في التلفزيون البلجيكي حيث قام بتصوير بضعة تقارير عن الأراضي الفلسطينية المحتلة. عام 1980 عاد إلى الناصرة لتصوير فيلمه الطويل الأول “الذاكرة الخصبة” الذي مزج فيه بين الأسلوبين الوثائقي والروائي. في عام 1987 أخرج “عرس الجليل” فيلمه الروائي الطويل الأول.
يعتبر ميشيل خليفي رائد السينما الفلسطينية المستقلة. وهو من أوائل المخرجين الفلسطينيين الذين صوروا أفلامهم من خلال عناصر الواقع الأكثر هامشية، واعتمد لغة نسوية تجعل المرأة الراوي الفعلي للأحداث، والمحرك الأكبر لسيرورة الفيلم والواقع على حد السواء، وانتصر بعدسته للمرأة الفلسطينية التي تواجه سلطتين إحداهما ذكورية والأخرى عسكرية، لكنها لا تتنازل عن حقها في أن تكون فاعلا سياسيا واجتماعيا وأن تقاوم دون الوقوع في المباشرتية وإنما بلغة الرمز والأسطورة والموروث.