المخرج اليتيم لقمة القاهرة للسلام

تدخل قمة القاهرة للسلام تاريخ الشرق الأوسط كأكثر لقاء سياسي بهذا المستوى إخفاقا. من الصعب توصيف مستوى هذا الإخفاق إلا عند الأخذ بنظر الاعتبار أنها قمة بلا برنامج أو أجندة أو مخرجات أو حتى بيان ختامي. حتى المفردات كانت غير مناسبة. استخدمت مفردة السلام، في حين أن أقصى ما يحلم به من يريد إيقاف حمام الدم في غزة هو هدنة. إنها قمة الانفصام عن الواقع، تجمّعت وتفرّقت بلا أيّ معنى.
في الوقت الذي كان فيه القادة العرب يلقون الكلمات في القمة، كانت إسرائيل تلقي بالقنابل على غزة. الكلمات كانت تنفيسا سياسيا وشخصيا يعبّر عن عجز القيادات العربية عن الإتيان بفعل مؤثر. القنابل كانت نوعا آخر من التنفيس، عمدت إسرائيل من خلاله إلى التأكيد على أنها على أول طريق الانتقام من هجوم حماس الصادم والمؤلم. لا علاقة للسلام بالتنفيس السياسي أو العسكري لدى الطرفين.
لم يصب التوفيق القمة حتى بالإخراج البصري لها. صاحب وصول القادة والوفود استعراض عمد إليه التلفزيون المصري باستخدام لقطات من “العاصمة الإدارية” الجديدة. كاميرات مربوطة على مسيّرات استبقت القمة وصورت مشاهد لمبنى قاعة المؤتمرات والجامع والأبراج والمباني. ومن سوء حظ النقل التلفزيوني أن أغلب الفضائيات كانت تقسم الشاشة إلى نصفين. نصف عن القمة نقلا عن التلفزيون المصري، الناقل الرسمي. ونصف للقطة من أفق يصور مدينة غزة وهي تتعرض للقصف أو مشاهد من الدمار الحاصل. لم يجد التلفزيون المصري مناسبة أفضل للتسويق للعاصمة الإدارية الجديدة إلا هذه القمة وهذه الحرب. تعالوا استأجروا في العاصمة الجديدة ذات الأبنية الزجاجية التي تخطف الأبصار. حتى بوستر القمة لم ينجُ من الإشارة إلى العاصمة الجديدة والأبنية فيها.
◙ لعل ما خرجت به القمة هو ما قاله الرئيس السيسي وكرره العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني: لا حل للقضية الفلسطينية على حساب مصر أو الأردن
أسوأ ما في القمة كان مستوى التمثيل الغربي وما قاله الوزراء والسفراء الذين حضروا الاجتماع. لسبب ما، كان ثمة اعتقاد أن الغربيين سيكونون بوضع محرج وهم ضيوف على مصر والقمة، وأن يختاروا كلماتهم بلباقة أكثر. هذا قصور في فهم عقلية الغرب الذي حسم أمره بدعم مشروع إسرائيل للانتقام. عليك أن تفهم كيف يفكّر الغرب. ما أن يحسم أمره بالذهاب إلى أقصى درجات العنف، فإنه يفعل بلا تردد. لا نريد أن نضرب الأمثلة عمّا فعله الغرب مع دول مثل فيتنام والعراق وأفغانستان. انظر كيف تعامل مع بعضه البعض في حربيه العالميتين وحروبه البينية الأخرى. كيف قصف الطيران الألماني غرنيكا الإسبانية عام 1937 أو حملة تدمير لندن 1940 – 1941. أو الرد البريطاني – الأميركي على ألمانيا في نهايات الحرب العالمية الثانية بقصف هامبورغ وتدمير 60 في المئة من أبنيتها وقصف درسدن الذي أدى عمليا إلى مسح مدينة تاريخية جميلة ومقتل عشرات الآلاف من سكانها. للحظة، بعد قصف هامبورغ وتدميرها، تساءل رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرتشل عن أخلاقيات قصف المدن، فكان رد القائد البريطاني المكلف بالقصف آرثر هاريس بمقطع من سفر هوشع من العهد القديم: “من يزرع الريح يحصد العاصفة”. لا يوجد ما يشير إلى أن الغرب غيّر طريقته في التفكير. الفارق هو أن بعض كلمات التلطيف التي كانت تصاحب الاعتراضات الغربية على استهداف إسرائيل لغزة في حروبها السابقة، اختفت الآن. لإسرائيل اليوم ضوء أخضر وكل الدعم، ليس من الولايات المتحدة فقط، بل من كل الدول الغربية.
لم يلتقط بيان الرئاسة المصرية الذي أعقب القمة هذا الأمر كما ينبغي وإن كان قد توجّه باللوم إلى القوى الغربية التي تتعمد التفريق بين حقوق الفلسطينيين في السلام وحقوق الإسرائيليين بالعيش الآمن. البيان، الحافل بالأخطاء النحوية والإملائية، كان يريد التغطية على فشل القمة وضعف الإعداد لها. كان من الصعب على مصر أن تتقبّل أنّ كل هذا الحشد من الزعماء والسياسيين غير كاف لفرض دخول قوافل الإغاثة للغزيين. مرّت عشرون شاحنة بالتزامن مع القمة، وعاد التعثر. أصوات الاستغاثة من غزة، من مستشفياتها وبيوتها وأكوام الدمار التي تنتظر من يلتقط الضحايا من تحت الركام، ما قدّمت أو أخّرت. الانتقام الإسرائيلي يجب أن يصل إلى مداه. إسرائيل، وخصوصا جيشها، تريد أن تسجل سابقة تدمير جديدة تلقّن المنطقة درسا. لا تبدو مهتمة بالخسائر من الأسرى والمحتجزين الغربيين والإسرائيليين عند حماس، ولا الكلفة البشرية على أهل غزة من العزل، بل للمرة الأولى تبدو إسرائيل مستعدة لتقديم أيّ عدد من جنودها قتلى وجرحى لتصفية جيب حماس في غزة. صوت عدوانية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يبدو ضعيفا وخافتا مقارنة بما نسمعه من كبار قادة الجيش الإسرائيلي.
لا تريد إسرائيل أن تسمع حتى الناصحين من المحسوبين عليها تاريخيا من السياسيين والمحللين، ممّن يقولون إن حربا برية على غزة لا يسبقها إعلان أن تدمير حماس سيعيد تأهيل السلطة الفلسطينية وإن النتيجة على المدى البعيد هو حل الدولتين، هي حرب بلا أفق أو نتيجة، وإن الفلسطينيين الذين صمدوا أمام كل الظروف القاهرة، لن يتراجعوا الآن عن قضيتهم بترويعهم في غزة. حماس جزء من المشكلة للسلطة والإسرائيليين. ولكن الفشل الإسرائيلي السياسي المتراكم في التعامل مع قضية الشعب الفلسطيني لا يرتبط بغزة وحماس، لأن ذات العقلية التي أهملت شعب غزة، أهملت شعب الضفة. حماس لا تحكم الضفة، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تركت السلطة الفلسطينية تشيخ وتتفكك دون وجود أيّ نوايا لاستكمال طريق أوسلو والوصول إلى نتيجة تضمن ما يرضي الفلسطينيين بالحد الأدنى.
◙ في الوقت الذي كان فيه القادة العرب يلقون الكلمات في القمة، كانت إسرائيل تلقي بالقنابل على غزة. الكلمات كانت تنفيسا سياسيا وشخصيا يعبّر عن عجز القيادات العربية عن الإتيان بفعل مؤثر
خارطة الطريق التي تحدث عنها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في كلمته في القمة لها وعليها. لها، إنها تقول ما يقوله الفلسطينيون والعرب، للغرب قبل إسرائيل. وعليها، إنها لا تراعي الوضع الراهن وكيف تطور الأمر على الأرض للوصول إلى حافة الدمار الشامل في غزة. إن الحديث عن نهاية لخارطة الطريق هذه تكون بحل الدولتين في نفس الوقت الذي تتكدس فيه قوافل الإغاثة في معبر رفح، يبسّط الأمور ويجعلها في سياق عجز قمة السلام في القاهرة.
لعل ما خرجت به القمة هو ما قاله الرئيس السيسي وكرره العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني: لا حل للقضية الفلسطينية على حساب مصر أو الأردن. هذا المخرج اليتيم، ولكن المهم للقمة، أي لا تدفق للاجئين نحو سيناء أو الأردن، هو من أهم أركان فكرة عدم انتشار الصراع ولا يقل أهمية عن خطورة امتداده إقليميا بدخول حزب الله أو إيران الحرب. دخول الإيرانيين الحرب من خلال شبكة الولاءات المتعددة لهم في لبنان وسوريا والعراق، يبقى قضية تحسبها طهران ضمن خطتها للمنطقة، وليس لأنها تريد أن تدعم موقف حماس.
انتهت القمة، وعاد الوضع للترقب في انتظار ما سيسفر عنه الهجوم البري الإسرائيلي المرتقب على غزة. بعد أسبوعين فقط من “طوفان القدس”، نسي الناس مفردة الطوفان أمام هول الكارثة في غزة، ولم يعد أحد يردّدها. وحتى يحسم الأمر على الأرض، يمكن لمصر أن تنشغل بفتح وإغلاق معبر رفح وعدد الشاحنات المارة، وأن تتلهّى قطر بالحديث عن صفقات إطلاق الرهائن والمحتجزين الغربيين، وأن يزايد حزب الله على الجميع بحرب لا يريدها، وأن تزيد إيران جرعة الكراهية لأميركا في المنطقة على أمل يأتي يوم تنفرد فيه بالشرق الأوسط.