حكاية وطن السيسي

لا يزال ثمة شهران قبل موعد الانتخابات الرئاسية ولم يقل السيسي كلامه الأخير عن القادم. لا يزال يذكّر المصريين بـ"حكايته" لكن المصريين تجاوزوا مرحلة سماع الحكايات.
الاثنين 2023/10/09
الجيش خلف السيسي

تُحسب للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي صراحته. في الكثير من المناسبات يرتجل الحديث ويخرج على لسانه ما يدور في ذهنه، دون الرقيب الذاتي التقليدي الذي يتميز به السياسيون. قبل سنوات، صارح المصريين بلا مواربة: أنتم فقراء. هذه الصراحة مفيدة لأنها لا تكشف سرا. هذا واقع مصر التي تجاوز عدد سكانها 100 مليون، الكثير منهم تحت خط الفقر العالمي. وفي أكثر من حديث، حاول السيسي أن يبعث روح التفاؤل بين المصريين الذين يحسّون أنهم يخسرون يوميا في سباق العيش، بين عدد متزايد للسكان يضغط على كل مفردات الحياة من مأكل وخدمات، وتنمية شبحية لاقتصاد بلا بوصلة توجهه تقريبا.

الغلاء وتراجع قيمة العملة وتذبذب تحويلات المصريين من العملة الصعبة زادت من فقر مصر. أرقام الاحتياطي المصري من العملة الصعبة معقولة، لكنها في جزء مهمّ منها ودائع خليجية موجودة في الرصيد لمنح الثقة. ولبلد يستورد تقريبا كل شيء، بما فيه أساسيات الغذاء المدعوم، وخصوصا القمح، فإن من حق المصريين أن يقلقوا مما هو قادم. هذا القلق لا يجد له الكثير من المتنفس عندما يستمعون لكلام الرئيس وهو يقبل الجوع كخيار طالما كان ثمنا لتنمية وتقدم يراهما الرئيس ولكن قد لا يراهما غيره. الصراحة المعتادة والمرتبطة بالارتجال كانت في حاجة إلى عملية سحب لفيديو الرئيس السيسي وهو يقرن الجوع بنجاح مشروعه الخاص لمصر، وحذف تلك الملاحظات من النسخ اللاحقة له، لم تزد المصريين إلا قلقا. حتى الاستعراض الإعلامي المعنون “حكاية وطن” لم يكن مطمئنا.

السيسي ليس مبارك الكهل الذي كان منفصلا عن الجيش والحكومة والناس معا. حكم السيسي مستمر على المدى المنظور، ولكن غاياته هي الشيء غير المنظور

ركّز الاستعراض على ما تحقق من منجزات خلال السنوات الماضية. ما لم يسمعه المصريون القلقون على حاضرهم ومستقبلهم القريب هو خطة الرئيس للقادم. لا تستطيع أن تلوم المصريين على مثل هذا القلق. فالسنوات الماضية شهدت خلطا خطيرا بين التنمية والإعمار. المشروع الرئاسي ركز على الإعمار بشكل كبير، وأهمل التنمية لدرجة مقلقة. لا شك أن مصر في حاجة إلى الإعمار. بالحد الأدنى، ثمة زيادة سكانية مليونية سنوية من الصعب استيعابها بالبنى التحتية المتوفرة في مدن مصر، كسكن للأسر الجديدة أو الخدمات المصاحبة. لكن ما شاهده المصريون كان إعمارا من نوع آخر جسدته العاصمة الإدارية الجديدة التي لا يعرف بالضبط مَنْ تستهدف.

ثمة ولع تاريخي مصري بالعواصم والعمائر. قائمة عواصم مصر طويلة، لكن من أكثر من ألف سنة استقر المصريون على القاهرة. أما العمائر فحكاية ثانية يرتبط بها الديني بالاجتماعي، من الأهرامات المذهلة حجما وتصميما وفخامة رغم أنها قبر لشخص واحد بمقاييس طول وعرض وارتفاع استثنائية، إلى سلسلة الأبنية في القاهرة الفاطمية والمملوكية التي تشمل الجوامع والقلاع والأسواق. قادة مصر يحبون الأبنية الضخمة ولا يلامون. فمصر بلد يعيش فيه الملايين منذ فجر التاريخ، وأول ما يدور بذهن الفرعون أو الخليفة أو السلطان أن يبني شيئا، ببعد ديني حقيقي أو مفترض، بحجم يبهر به شعبا لا يعد بالآلاف. الجدوى الاقتصادية أو أن يكون البناء مناسبا للعيش لبعض من تلك الملايين المصرية كانا شيئا ثانويا. المصريون بادروا إلى تحويل ما بناه سلاطينهم إلى سكن، وذهبوا أبعد عندما حوّلوا عمائر المقابر إلى مدينة للعيش.

فكرة العاصمة الإدارية الجديدة مغرية، لأنها عاصمة تسجل باسم عهد السيسي – كما يقال اليوم قاهرة المعز الفاطمي – ولأنها تنسجم مع الولع المصري بالعمائر على حساب الجدوى. كل من تجول بالعاصمة الجديدة يشيد بتصميمها وعصريتها، لكنها فارغة. الضغط على إدارات الدولة للانتقال إلى مباني العاصمة الجديدة يعقّد حياة الموظفين كما يزيد من أزمة التعامل الإداري بين المواطن والمؤسسة الحكومية المعنية. الانتقال من مجمّع التحرير وسط القاهرة، وهو مبنى يرتبط بذهن المصريين بالازدحام والبيروقراطية البطيئة، إلى مباني العاصمة الجديدة لا يبدو سلسا. لعل التعاملات الإلكترونية المتزايدة للإدارة الحكومية المصرية ستسهل الأمر أكثر، لكن هذا حل يستلزم أبنية غير بشرية تحتوي على أجهزة كمبيوتر خادمة أو استضافة سحابية للخدمات الإلكترونية، وليس إلى أبنية كبيرة لآلاف الموظفين. ماذا سيفعل هؤلاء الموظفون إذا كان المواطن يجد حلوله في صفحة على الإنترنت؟

القراءة المصرية التي تخلط بين الإعمار والتنمية تجد بعدا آخر في مصادر تمويل الإعمار في العاصمة الإدارية الجديدة. ثمة تقدير لكلفة تشييد العاصمة الجديدة في حدود 58 مليار دولار. هذه أموال نادرة حصلت عليها مصر في لحظة تاريخية فارقة. تدفقت أموال المعونات والقروض الميسرة من دول الخليج المتنافسة في مرحلة صراع معروفة، ومن الغرب الذي يدرك خطورة انفلات الأمور في بلد بحجم سكاني مثل مصر. كان الهمّ المرتبط بسيطرة الإسلام السياسي على مصر حاضرا لدى السعودية والإمارات والكويت، لكن الغرب كان يرى التدفق البشري القادم من بلد أصغر مثل سوريا، وقاس الأمر على ذلك وتحسّب لوضع مماثل في مصر التي تمتد سواحلها لمئات الكيلومترات بالموازاة الجنوبية لسواحل أوروبية مقابلة على الضفة الشمالية للبحر المتوسط. تمكّن الجيش من ضبط الأوضاع وتربّع السيسي على كرسي الرئاسة مدعوما بخزانة تتدفق عليها المليارات.

في بلد يستورد تقريبا كل شيء.. من حق المصريين أن يقلقوا مما هو قادم. هذا القلق لا يجد له الكثير من المتنفس عندما يستمعون لكلام الرئيس وهو يقبل الجوع كخيار طالما كان ثمنا لتنمية وتقدم يراهما الرئيس ولكن قد لا يراهما غيره

لا نعرف بالضبط كم وصل مصر من هذا المال “المجاني” أو “شبه المجاني”. لكنه بالتأكيد مال كثير، كثير إلى درجة الإغراء ببناء عاصمة جديدة وفتح حارة مرور ثانية في قناة السويس بغض النظر عن جدواها الاقتصادية. لا يزال عدد السفن التي تمر في قناة السويس يتناسب مع حجم التجارة العالمية وليس مرتبطا بشق الممر الموازي الجديد. استنزاف 8 مليارات دولار من المال المجاني ليس بالشيء الهين. لا شك أنه لم يكن من المطلوب من السيسي توجيه هذه الأموال وغيرها نحو الميزانية التشغيلية للدولة المصرية أو للاستمرار بدعم الرغيف. لكن المؤكد أن هذه المليارات العزيزة لم توجه للتنمية. والمقصود من التنمية هنا، تلك المشاريع والأعمال التي تستطيع أن تنتج ما يعوّض مالية إنشائها ويفتح الباب لأيد عاملة أكثر. لا نعرف بعد انتهاء العمل في الممر الثاني في قناة السويس كم موظفا إضافيا استقطبت هيئة القناة. لكننا نعرف بالتأكيد أن المال الخليجي المجاني هو شيء من التاريخ.

التجديد للرئيس السيسي ليس محل جدل. الكلام عن تقديمه موعد الانتخابات الرئاسية لاستباق خيارات قد يفكّر فيها الجيش لتنفيس الغضب الشعبي من مسألة الغلاء وتراجع العملة، لا يأخذ بالاعتبار أن السيسي هو مراهنة الجيش للحكم من خلاله وأن هزة تقديم البديل هذه المرة صعبة وغير مأمونة. السيسي ليس مبارك الكهل الذي كان منفصلا عن الجيش والحكومة والناس معا. حكم السيسي مستمر على المدى المنظور، ولكن غاياته هي الشيء غير المنظور.

لا يزال ثمة شهران قبل موعد الانتخابات الرئاسية. لم يقل السيسي كلامه الأخير عن القادم. لا يزال يذكّر المصريين بـ”حكايته”. لكن المصريين تجاوزوا مرحلة سماع الحكايات. تعلموا، مع الانفتاح الإعلامي وما يرونه من حولهم في العالم، أن الزعماء يستمرون بالحكم بما يقدمونه من مشاريع للحاضر والمستقبل القريب. الاستقرار الذي وفره السيسي يؤخذ بالحسبان بالتأكيد عند كل مصري يقلب خياراته (على افتراض أن الانتخابات ستقدم خيارات). لكنه يرى أن من حقه، وهو المنهك بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب بلاده، أن يسمع كلاما أفضل من الاستهانة بجوعه. على وقع صراحة الرئيس وارتجاله الكلام، ينتظر المصريون ما يطمئنهم. نتائج الانتخابات تحصيل حاصل.

9