أين نحن من التنوير.. سؤال مؤجل يبحث عن جواب

ما حدث لتمثال المعري يفسر الواقع العربي.
الاثنين 2023/10/09
التعصب والتطرف يحطمان الماضي والحاضر والمستقبل

مازالت المجتمعات والنخب العربية تطرح سؤالا مكررا وبلا إجابات شافية، هو: لماذا فشل التنوير في العالم العربي؟ وهو سؤال ملح اليوم شريطة أن تتصدى له النخب بجرأة، ما قد يمكّن من فهم أسباب الانتكاس والتراجع، وغياب المشروع الحداثي الحقيقي والمؤثر. وهو ما يحاول تفكيكه الباحث والمفكر السوري هاشم صالح.

العالم على مشارف تحولات مفصلية ومن المتوقع رؤية شكل جديد ونسخة غير معهودة من الحياة في غضون السنوات القادمة. وهو ما يعني أن التفوق المبشر بالفتوحات يكون عنوانا للمستقبل على الأصعدة كافة. صحيح أن مقابل ما يلوح في الأفق من قفزات علمية وتقنية توجد تحديات وبائية وبيئية، غير أن المطبات لا تعيد عقارب ساعة العقل العلمي إلى الوراء، ولا تقيد المشاريع المستقبلية بسقف الأفكار التقليدية.

ووفق ما سبق، يبدو غريبا إلى حد ما أن واقعنا الفكري ما يزال مسقفا بسؤال ينتمي إلى القرن الثامن عشر عندما سأل كانط “هل نحن في عصر التنوير؟”، فكان جوابه نحن في طريقنا نحو التنوير. بالطبع أن الغرب منذ ذاك الوقت إلى الآن قطع أشواطا طويلة ونجح في اختبار التناحر الطائفي والمذهبي ونهض من ركام الحربين العظميين أكثر قوة وطموحا، وحقق إصلاحا في الهيكلة السياسية والنظام الاقتصادي، أما على المستوى العلمي فحدث ولا حرج.

هداية تنويرية

العالم العربي والإسلامي معاصر للغرب زمنيا ومتخلف عنه معرفيا
العالم العربي والإسلامي معاصر للغرب زمنيا ومتخلف عنه معرفيا

ماذا بشأن الواقع الشرق أوسطي؟ هل أدرك زمن الأنوار وردم الهوة التي تفصله عن حركة العصر؟

 يرى الباحث والمفكر السوري هاشم صالح أن العالم العربي والإسلامي معاصر للغرب زمنيا ومتخلف عنه معرفيا، وما يؤكد ذلك الكلام هو التفسخ في النظام الإداري والتطاحن على الخلفية المذهبية والطائفية والجمود في المؤسسات التعليمية وإخفاق الحراكات الجماهيرية، كل ذلك من أعراض واضحة لأزمة متفاقمة في العالم الإسلامي وما يزيد من المعضلة برأي صالح تضخم العقلية اللاهوتية وهيمنة التيار التراثي.

يعتقد صالح أن الأولوية يجب أن تكون لبناء المعارف الصحيحة على أنقاض المعرفة التقليدية، قبل ذلك لا يمكن تفكيك العصبيات الحاضنة لبذور الاقتتال والتكفير. ويعترف صاحب “لماذا يشتعل العالم العربي؟” بأن الطائفية وعذوبة العصبيات الدينية لا يُستهان بإغراءاتها لأن الإشكالية لها أبعاد

تاريخية ونفسية واجتماعية. ومن المعلوم أن التعصب ليس وقفا على الدين إنما أي فكرة متلبدة بنفس أيديولوجي قد تؤجج التعصب والعنصرية.

لا ينقطع هاشم صالح عن التنقيب في تربة الفكر الديني ومناقشة منابع الثقافة الارتكاسية في مجمل كتاباته، كما أن الهموم التنويرية هي فكرة ناظمة لمؤلفاته وحفرياته السيرية، إذ يستعيد في كتابه “من التنوير الأوروبي إلى التنوير العربي”، الصادر أخيرا عن دار المدى، محطات من نشأته في بيئة مطبوعة بالثقافة التقليدية. فقد كان غارقا في أجواء محافظة. والحال هذه، لا ينفصل صراع الكاتب مع التيار الأصولي عن مساعيه الحثيثة لتفكيك عقدة الأب والقطيعة عن سلطته الرمزية. يقول “كنت بحاجة ماسة إلى التخلص من تلك التربية القعمية المتزمتة التي رباني عليها ذلك الشيخ المتجهم منذ نعومة أظافري”.

إذن ما إن يطأ صالح القدم في باريس حتى يتأكد بأن النقلة الفكرية لا تتحقق في الفراغ بل تتحرك على أرضية واعدة بالفتوحات والنقاشات، وهو ما يحجز للغرب موقع الأسبقية قياسا على البلدان التي يطيب لنخبتها السياسية والثقافية الصمت عن أصول الأزمات والتدوير للشعارات المستهلكة. وما يتمخض عن ذلك بالطبع هو الضمور العقلي والارتداد نحو الماضي.

يتفاجأ مؤلف “العرب والبراكين التراثية” بأن هموم المثقف الفرنسي تختلف عن الهموم التي تؤرق نظيره العربي. والتظاهر بوجود الهموم المتطابقة لدى الطرفين لا يلغي السؤال المؤجل “أين أنت من التنوير؟”.

إذن، قبض صالح على الحلقة المفقودة. وفهم التفاوت التاريخي بين الواقعين الإسلامي والغربي. وكان محمد أركون دليله إلى جادة الصواب، فالمعروف عن أركون توظيفه للمناهج الألسنية والأركيولوجية الجديدة في قراءة النصوص الدينية، ويقوم مشروعه على أرخنة مقاصد النص المؤسس. ومع

 معاينة مقومات الحداثة يكشف صالح عن تيارين في التنوير الأوروبي، الأول يكون أقرب إلى الروحاني المؤمن يمثله كل من كانط وروسو وهانز كونغ وبرغسون، وفي المقابل ثمة التيار الإلحادي على طريقة ماركس وفيورباخ ونيتشه. وما يوافق مزاجه على الأكثر هو التيار الأول.

 يتوقف المؤلف في مفصل من كتابه عند واقع الأزمة السورية وتفاقم ظاهرة التطرف التي داس أصحابها على تمثال الشاعر العربي الأشهر أبي العلاء المعري، لافتا إلى ما يرمز إليه فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة من القيمة التنويرية والعقلانية، لذلك شن عليه الاتجاه التقليدي حربا لا هوادة فيها عندما كان محتميا بعزلته، غير أنه مع بدايات النهضة العربية قد تم الاحتفاء بصاحب “اللزوميات” قبل أن تتصاعد موجة الفتاوى التكفيرية الهادفة إلى إقصاء الوجه العقلاني في التراث العربي.

ويتناول صالح تبعات التسييس اللاهوتي على الحريات الشخصية في الكيانات الثيوقراطية انطلاقا من مقتل الشابة مهسا أميني والإكراه على التقيد بقشور الدين والتغافل عن المبدأ القرآني المتمثل بـ”لا إكراه في الدين”.

الانتكاسة وخطاب الهامش

الأولوية يجب أن تكون لبناء المعارف الصحيحة على أنقاض المعرفة التقليدية، قبل ذلك لا يمكن تفكيك العصبيات
الأولوية يجب أن تكون لبناء المعارف الصحيحة على أنقاض المعرفة التقليدية، قبل ذلك لا يمكن تفكيك العصبيات

تعود جذور الفكر المتشدد حسب قراءة هاشم صالح إلى عام 1018 ميلاديا وإصدار البلاغ السلطاني الذي نص على تكفير المعتزلة، كما أن كتاب “تهافت الفلاسفة” للإمام الغزالي قد لعب دور كبيرا في نبذ مفهوم الفلسفة إلى أن سادت مرحلة الانحطاط الفكري. ويجوس الكاتب في الأدبيات الغربية متابعا نظرة المفكرين عن الإسلام واللافت في السياق هو ما يقوله رجيس دوبريه عن المجتمع الإيراني الذي يراه منفتحا بخلاف ما بدا له من البعيد. والأهم ما يرد في الفصل الخاص بالمفكر داريوش شايغان هو قوله إنه شخصية مكونة من ثلاث هويات متراتبة بعضها فوق بعض، الفارسية القديمة والإسلامية والحداثية الأوروبية.

ويعزو شايغان كراهية العالم الإسلامي للقيم الحداثية إلى ظاهرة الاستعمار من جانب والإحساس بالفشل التاريخي الذريع أمام الغرب المتغطرس من جانب آخر، وهو ما يحيلنا إلى رأي سعيد ناشيد حول السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان “لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟”. تضمر الصياغة الأرسلانية شحنات تذكي الانفعالات السلبية وغرائز الانحطاط حسب تحليل ناشيد. ولا يغيب محمد أركون عن انشغالات صالح، بل إن الأخير يعتبر نفسه امتدادا لمشروع مؤلف “نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي”. فقد حاول أركون تدشين منهج تفكيكي للخروج مما يسميه بالسياجات الدوغمائية المغلقة.

ويلتفت صالح إلى محاولات المفكر التونسي محمد الشرفي لتحديث النظام التعليمي ومعاركه مع التيارات المعادية للعقلنة. ويقدم الكاتب إضاءات كاشفة لمشروع جورج طرابيشي وحفرياته العميقة للمرحلة التي شهد فيها الفكر الديني التحول نحو ما يصطلح عليه بإسلام الحديث. وما يحسب لطرابيشي هو اختراع المصطلحات لأن الفكر الجديد لا يستقيم دون عكاز المصطلحات والتحديث في المعجم.

لا يغادر صالح على امتداد قراءاته المتتابعة إشكاليات الفكر الديني متكئا في مباحث كتابه على مفاهيم فكرية حديثة وأعلام الاستنارة العربية والإسلامية، وعلى الرغم من الانتكاسات التي قد تبوء بها الحراكات التنويرية، غير أنه يؤمن بما قاله هيغل بأن التاريخ عقلاني حتى لو كان الواقع حافلا بمظاهر غير عقلانية.

 شأن أي مفكر رزين لا يسوق صالح للحلول الخلاصية العاجلة بل يستعيد ما أكد عليه كانط بأن المهم في حركة التنوير هو حجم المتعاطفين معها للإبانة عن ضراوة الصراع وعدم الاستغراب من فوز المناوئين للعقلانية في الانتخابات، لأن الحداثة ليست لها مرجعية متينة في مجتمعاتنا. والسؤال الجوهري في هذا الإطار هو إذا كان الإسلام المنفتح والمتنور قد وجد عند العرب قبل ألف سنة في عهد المأمون فلماذا لا يوجد الآن؟

كراهية العالم الإسلامي للقيم الحداثية تعود إلى ظاهرة الاستعمار والإحساس بالفشل التاريخي الذريع أمام الغرب المتغطرس

إذا كان متن الكتاب يستند إلى خطاب يعبر عن خطه المعرفي فإن ما ينزل في الهامشِ يملأ ثغرات موجودة في النص المعلن عنه مباشرة، أو يكون رديفا موضوحا لإرسالياته. ما يذكره صالح على هامش مؤلفاته هو بمنزلة نص مواز يكمل ما يفرده في المتن، والملاحظ أن الهموم الذاتية على مرمى اهتمامات الكاتب وهو بصدد تنقيباته في ملعب الفكر التنويري، إذ يضرب مثالا بتجربته الشخصية لتبيان هول المواجهة والتشابك بين التيارات المتصارعة فكريا وعقائديا.

يقول “إذا كانت مشكلتي الشخصية مع والدي قد استغرقت مني خمسين سنة لكي أتمكن من حلها والتخلص من هالتها اللاهوتية الكبرى نهائيا، فما بالك بالمشكلة العامة للعرب والمسلمين؟”. ويعترف بأنه لم ينشق عن سلطة الأب إلا بعد الجهد الجهيد، ويفهم من ذلك أن معركته مع التراث مرحلة لاحقة لصراعه الضروس مع الأب الذي كان من رجال الدين. وقد تستر على حد قوله تحت غطاء الزهد والتدين. ولم يزل الابن مرتبطا بهالة الأب حتى بعد أن أمضى سنتين في السوربون إلى أن توج منازلته في المعركة الصغرى بالانتصار.

تذكرنا الشذرات الاعترافية بكلام فريدريك لونوار بأن الفكر يحمل ختم حساسية صاحبه. من هنا نفهم لماذا تخلى صالح عن النقد الأدبي الذي هو مجال اختصاصه وتفرغ للنقد الفكري والفلسفي للدين. ويشار إلى أن مؤلف “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” قبل سفره إلى فرنسا ترك دراسة الطب في جامعة حلب وانتقل إلى كلية الآداب بجامعة دمشق ومن ثم انتهى به المطاف إلى المعترك الفلسفي.

مع إبدائه إعجابا شديدا بالحداثة الغربية لكن ذلك لا يمنع المؤلف من نقد الطغيان المادي والظواهر التي تسيء للقيم الإنسانية في المجتمعات الغربية، ويؤكد على خط الهامش بأن الحق يرجح لصالح بوتين في حربه مع الغرب. وأن ما يجب قوله في الأخير إن الحداثة ليست الجانب المادي من التطور فقط، بل أخطر من ذلك بكثير، إنها حدث روحي وفكري في تاريخ الفكر والوجود وفك للانسدادات العقائدية.

13