أمين معلوف باحث عن المشترك الإنساني

لم يكن مصادفة انتخاب الكاتب الفرنسي – اللبناني أمين معلوف على رأس الأكاديمية الفرنسية التي تعد أعرق المؤسسات الثقافية في فرنسا والعالم الفرنكوفوني، إذ خاض تجربة مختلفة أهلته ليكون حلقة وصل معرفية بين عالمي الشرق والغرب، وإن كان اختياره لهذا المنصب قد أثار جدلا بين مناصر ومشكك فإنه جاء بعد مسار متوازن أسسه معلوف.
يحسب للمفكر والروائي اللبناني أمين معلوف، الذي ينشر كتاباته باللغة الفرنسية ضمن الأصوات الفكرية المتوازنة على الصعيد العالمي، أنه قد تمكن من تخطي الترسبات الأيدولوجية ونسق العقلية الاصطفائية، لذلك فإن دراسة أفكاره ضرورة ملحة، إذ يصبو في اشتغاله الإبداعي والفكري إلى نزع الغطاء عن مروجي الأوهام الذين يزعمون بأن التباين في الخلفية الدينية والقومية والحضارية يقوض إمكانيات التواصل ويحول دون الانضواء تحت مبادئ مشتركة.
يقوم برنامج معلوف الفكري والإبداعي على البحث عن المشترك الإنساني وإظهار قيمة الأفكار المستنيرة، ومن الخطأ برأي صاحب “ليون الأفريقي” رهن الكائن البشري بانتماءات فرعية. وبذلك فقد خالف الاتجاه السائد الذي تمثل في التسويق لمفهوم صدام الحضارات، ومن المعلوم أن الأفكار المتشنجة لم تعد مقصورة على التيارات الشعبوية بل تسربت إلى الخطاب النخبوي وراجت العناوين والتنظيرات التي تؤكد أن الغرب هو المنصة الوحيدة للانطلاقات الحضارية فيما لم تشب بقية شعوب المعمورة عن مرحلة الطفولة العقلية.
يحاول مؤلف “الهويات القاتلة” دحض هذه النظريات متكئا في صياغة رؤيته على تجربته الشخصية التي زادته وعيا بالآليات المؤسسة للتواصل الحضاري.
الأنسنة وتاريخ الأكاديمة
وصل أمين معلوف إلى الأكاديمية الفرنسية متبوئا المقعد التاسع والعشرين بعدما غيب الموت الفيلسوف البنيوي كلود ليفي شتراوس نهاية 2009، والآن أصبح أمينا عاما للأكاديمية العتيدة، وفي ذلك دليل على أن الأفكار النابعة من المبادئ الإنسانية تعبر آفاقا ضيقة وتجد مقامها في المحافل التي تسعى لإيجاد حاضنة أرحب لتطلعات البشرية.
وبما أن أمين معلوف شغوف بالبحث عن الجذور فقد كرس كتابه “مقعد على ضفاف السين” لرواية جانب من حياة أسلافه الذين تعاقبوا على المقعد الذي قد شغله متتبعا ما أضافه هؤلاء المفكرون والفلاسفة بأعمالهم الأدبية والعلمية إلى الحصاد المعرفي، كما يضع القارئ في صميم التحولات العاصفة التي مرت بها فرنسا وتداعياتها الجسيمة على مسار التطور الفكري، زد على ذلك ما يكشفه من خلال هذا الكتاب عن تشابك بين الحقول المعرفية والتيارات السياسية إذ تتباين المواقف بهذا الشأن، ثمة من لا يرى ضيرا أن يجمع بين اهتماماته المعرفية والاشتغال في كواليس السياسة، كما هو شأن الشخص السادس الذي يشغل المقعد التاسع والعشرين أندريه هرقل كاردينال دو فلوري، فالأخير إضافة إلى عضويته في الأكاديمية الفرنسية كان من رجال الدين ومدرسا للملك وصاحب عقلية سياسية محنكة.
يفتتح معلوف القسم المخصص في كتابه للحديث عن دو فلوري بجملة معبرة عن شخصيته “ذاك الذي يهمس في أذن الملك”، من جانب آخر يذكر الكاتب السبب وراء استبعاد صاحب مسرحية “السيد” كورناي من الأكاديمية، مشيرا إلى ما كان يكنه الكاردينال ريشويلو من الكراهية للمؤلف المسرحي ما دفع القائمين على شؤون الأكاديمية إلى عدم انتخابه حتى لا يفسر ذلك كإساءة إلى من يعد راعيا لتك الأكاديمية وبذا يتضح دور العامل السياسي في انتخاب بعض الشخصيات وإقصاء غيرها.
مع انحسار نفوذ رجال الدين تحت قبة الأكاديمية يبدو أن أصحاب القرار السياسي لم يعد لهم ما يمارسون من خلاله السلطة في اختيار الأعضاء الأربعين في الأكاديمية، أشاد اللاحقون بجدارة بعض من سبقهم في التمتع بالعضوية، بالطبع إن وصول البعض إلى مقاعد الأكاديمية لم يكن بعيدا عن تدخلات السلطة السياسية، وهذا ما حصل بالنسبة لدوكاليير خامس شخص يشغل المقعد التاسع والعشرين، فقد أصبح عضوا للأكاديمية عقب إطرائه للويس الرابع عشر بيد أن سان سيمون يغدق على دو كاليير المديح واصفا إياه برجل طيب وبالغ الحصافة.
كذلك يتم الاعتراف بموهبة فليب كيتو في كتابة النصوص الأوبرالية مع أن انتخابه عضوا في الأكاديمية أثار حنق معاصريه من الأدباء والمفكرين بمن فيهم بوالو كما طاله نقد رجال الدين متهمين مؤلف لون جديد من النصوص الشعرية بالمفسد لكن الآراء ستتغير بعد عقود ويجد كيتو نصيرا لأعماله ومن ضمنهم فيلسوف التنوير الفرنسي فولتير.
هكذا كان الاعتراض والتوتر مصاحبين لقرارات اختيار الأعضاء الجدد، وفيما كان يفضل فرانسو هنري سالامون على كورناي يعلق الفيلسوف دالاميير على ذلك الموقف بكلمات قاسية قائلا “لقد تعهر عضو الأكاديمية”، لا تنقطع الصلة بين سلطة الملك والأكاديمية وكان يستجيب الملك لما يملي عليه رجال الإكليروس في ما يتعلق بالمرشحين لنيل مقاعد الأكاديمية إلى أن رجحت الكفة لصالح الفلاسفة والمفكرين بفضل السيدة دو بومبادور التي ستصبح فعليا ملكة فرنسا، فالأخيرة كانت مناصرة للفلاسفة وتقنع الملك لويس الخامس عشر بأن لا يمنع دخول فولتير إلى الأكاديمية.
ما هو جدير بالإشارة في هذا السياق أن فرنسا كانت منقسمة قبل قيام الثورة ليس بين حزبين سياسيين إنما بين الملحن الألماني كريستوف غلوك ونيكولو بيتشيني، وبلغت الخصومة بين أنصار هذين اللونين من الموسيقى إلى درجة أنه لا أحد يرضى بأن يقابلك قبل التأكد إن كنت من مؤيدي غلوك أو بيتشيني، حسبما ينقله صاحب الكتاب على لسان زائر إنجليزي إلى باريس. وهذا ما يذكرنا بما يقدمه جورج قرم في كتابه “تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب” عن دور الموسيقى في النهوض بالشعوب الأوروبية. صحيح ليس كل من صار عضوا في الأكاديمية ترك وراءه إرثا سواء على المستوى العلمي أو الأدبي لكن توجد بين من شغل المقعد التاسع والعشرين أسماء لا تزال مؤلفاتها تدرس على أرقى المستويات الأكاديمية.
لا يكتفي أمين معلوف بسرد المآثر العلمية والأدبية التي تنتسب إلى شخصيات صنعت مجد فرنسا المعرفي، بل يستجلي الاختلاف بين خط التطور في المجالين العلمي والأدبي إذ لا يمكن توقيع أي مكسب علمي باسم شخص بعينه إنما ما يتوصل إليه الإنسان من تطورات علمية ليس إلا نتيجة لتراكمات سابقة، كما لا تأتي نظرية جديدة إلا لتنقض ما سبقها من أفكار ونظريات أخرى فيما الأمر في عالم الأدب والفن يختلف إذ مهما تقادمت الأزمنة على النصوص الأدبية أو على المنحوتات التي أنجزتها الحضارات السابقة لا تغيب أبعادها الجمالية كما لا يمكن أن نجد لها بديلا فيما يقدمه الأدباء الجدد والفنانون المعاصرون.
المرونة الفكرية
يصف الكاتب ما مرت به فرنسا بالجموح الدموي إذ لم تعف هذه الموجة حتى بعض شخصيات استلهمها الثوار أمثال غرار كوندروسي الذي انتحر قبل أن يشنق على مرأى الجماهير، كما يتوقف معلوف عند مرحلة ما سميت بكومونة باريس وامتداداتها على مستقبل فرنسا، لا شك أن الاحتلال النازي يلقي بظلاله الثقيلة على الأكاديمية حيث غيب الموت بعض أعضائها دون انتخاب من يحل مكانهم واختار بعضهم الإقامة في المنفى.
ما يمنح كتاب معلوف المزيد من التشويق أنه يأخذ من كل شخصية ما هو أساسي في محطات حياته، فهو عندما يبحث عن حياة أول من شغل المقعد بيار باردان يقول ما ترك شيئا وراءه غير شجاعته حين أنقذ تلميذه من الموت وضحى بنفسه، فضلا عن ذلك لا ينسى الجانب العاطفي في حياة أسلافه الذين تجمعهم به هوية معرفية.
الأكثر من ذلك يعرض صاحب “التائهون” بالتفصيل الظروف التي نشأت في ظلها الأكاديمية، فهذه المؤسسة العريقة هي ثمرة لحلقة نقاش مجموعة من الأصدقاء المهتمين بشؤون الأدب ساندها أقوى رجل في فرنسا الكاردينال ريشوليو إلى أن أصبحت صرحا أكاديميا تليدا، ويذكر أمين معلوف أن كتابه جزء من دين يسدده لجوزيف ميشو، فالأخير كان مهتما بالتاريخ زار مصر واليونان والأناضول وكتب عن تاريخ الحروب الصليبية.
أمين معلوف يمثل روح الأنوار وحكمة الشرق إذ ترى في شخصيته صفاء العرفان الشرقي بجوار العقلانية الغربية
نشأ أمين معلوف في أجواء مطبوعة بالمرونة الفكرية ونضج تكوينه الثقافي بفعل المعايشة مع الاتجاهات المختلفة مواكبا التحولات المحلية والعالمية. فكان والده رشدي معلوف شاعرا وصحافيا يدير جريدة يومية، لذا فمن الطبيعي أن يقع الابن على حزمة من الصحف كل اليوم وهذا ما يحدو به وهو في عهد الصبا ليسأل الوالد مشيرا إلى الجرائد: أي واحدة يجب أن نصدق؟ فيجبه ولا واحدة منها وجميعها، لن تأتيك أي واحدة منها بكل الحقيقة.
انضمام أمين معلوف لاحقا إلى جريدة “النهار”، وهي أحد أعرق المنابر الثقافية في لبنان، أتاح له فرصة متابعة وقائع الهزات السياسية والفكرية عن كثب. ما عمق من المنحى الإنساني في شخصية صاحب “سمرقند” هو تمنياته النبيلة، إذ يرجو بأن تخطئ الأيام القادمة صحة توقعاته بغرق الحضارات كما لا يهمه أن تكون مؤلفاته مقروئة في العصور اللاحقة بقدر ما يتمنى انعتاق الأجيال القادمة من قيد الأزمات القاهرة، بحيث إذا تصفح أحد أحفاده كتابا للجد يعيده إلى الرف مستخفا ومستغربا من الحاجة إلى هذه الأفكار في زمن الآباء.
لا شطط في القول إن أمين معلوف يمثل بتطلعاته روح الأنوار من جهة وحكمة الشرق من جهة أخرى وترى في شخصيته صفاء العرفان الشرقي ماثلا بجوار العقلانية الغربية. وما يسبغ المصداقية على آرائه هو موضوعيته في تناول الإشكاليات الوجودية وإدراكه العميق بطيبعة الأمواج المتناوبة على مسرح التاريخ دون أن يأخذه الوهم بأن النغمة الغالبة هي التي تعبر عن الروح الإنسانية. يتفرد حارس الأكادمية الفرنسية في مقاربته للملفات الحساسة دون الشعور بالتوتر أو العقدة. الأمر الذي يؤكد أن أمين معلوف مثقف من طراز كوني.