التشكيلي الكردي صالح النجار يقبض على الزمن مخافة أن يهرب منه

رسام يخوض مغامرات عسيرة أساسها التجريب الفني.
السبت 2023/09/23
تلاعب بالعناصر والمفاهيم

لم يخش الفنان الكردي – العراقي صالح النجار منذ بدايته التجديد والتجريب، فهو برفضه التقليد والتشبه بغيره من الفنانين، وبتحريره لخياله الخصب يواصل تقديم أعمال مختلفة ومبتكرة تستمد جمالياتها من بيئته المكانية وتحاول اللحاق بالزمن الحاضر قبل أن يصبح ماضيا مؤثرا في هوية الفنان وتجربته التشكيلية.

كتبت عن تجربته قبل ست سنوات تقريبا، كان ذلك تزامنا مع مشاركته في المعرض المشترك لفناني كردستان وفلسطين والذي أقيم في مايو 2017 في قاعة قصر الثقافة بمدينة السليمانية في كردستان العراق ضمن أسبوع الصداقة والتضامن بين شعبي فلسطين وكردستان. قلت حينها إنه يبتدع نقليات نوعية للانطلاق بمشهده البصري باجتهاد، ويسعى جاهدا لتحقيق قيم فنية جمالية لها أهمية كبرى في ملامسة أفقه المتحول، وبأن مملكته منفتحة صيغيا.

قلت كل ذلك قبل سنوات وأنا أراه الآن يمضي ضمن النسق الذي تحدثت عنه، ويثبت يوما بعد يوم بأنه من أكثر فناني كردستان اجتهادا. فهو لا يهدأ، قد تجده اليوم في بغداد أو في بابل، وغدا في أربيل أو في السليمانية، وبعد غد في كركوك أو في خانقين، وتجده طائرا إلى إسطنبول.

هاجس التجريب

صالح النجار يعيش الإبداع ويمارسه بدرجاته كلها، المنخفضة منها والمرتفعة، لا يخاف من الجديد بل يبحث عنه
صالح النجار يعيش الإبداع ويمارسه بدرجاته كلها، المنخفضة منها والمرتفعة، لا يخاف من الجديد بل يبحث عنه

هذا النشاط الكبير وبهذه الحيوية لا بد أن يقطف ثماره الفنان، فهو من أكثر الفنانين الذي يشتغلون على أنفسهم، فلا يترك دقيقة تمضي دون أن يتنفسها فنا. أتحدث هنا عن صالح النجار (خانقين 1968)، الفنان الذي التقيت به على هامش سيمبوزيوم السليمانية الثالث الذي أقيم في سبتمبر 2021، برفقة الفنان ستار علي وآخرين لم تعد تسعفني الذاكرة بأسمائهم، وكان لا يزال بالحماس نفسه. تجده وكأنه ينبض بالفن أو كأنه خارج من طبخة ألوان ويمضي للغرق بأخرى. قرأت هذا الاجتهاد وهذا الحماس في حركيته التي لا تهدأ، وكأنه يصر على أن يقبض على الزمن مخافة أن يفلت منه، وهذه الحالة التي يعيشها تدفعه من بناء إلى آخر، ومن بحث إلى آخر.

التجريب هاجسه، فهو لا يخشى الغرق في بحيرات لونية معينة، كما لا يخشى من الجدران التي قد تعترضه. روحه المتمردة تمنحه طاقة مجنحة تمضي به إلى أفقه المتحول، الأفق الذي لا يهدأ بدوره، الأفق الذي يحاول الهرب بعيدا كلما أوشك النجار على ملامسته، الأفق الذي يجعل النجار يرقص إنجازا ضمن شعائر جمالية غير معهودة إلا لديه، شعائر أشبه بتلك الشعائر الخاصة بالعبادة، فهو الذي مر على التاريخ بحركات متزامنة مع ممارساته في مناطق الخلق، فضلا عن أنه يرسم صورة حقيقية لصعوده.

ونزوعه نحو استخداماته لوسائل الإنسان يجعله يثير بها مشاعره وعواطفه وعلى نحو خاص عاطفة الجمال بموسيقاها وإيقاعاتها، وهنا تبرز مهاراته التي تحكمها الطاقة التي لا تنام في دواخله.

إذا كان في الإبداع عادة حب استطلاع واستكشاف، فإن صالح النجار يعيش الإبداع ذاته، ويمارسه بدرجاته كلها، المنخفضة منها والمرتفعة، لا يخاف من الجديد بل يبحث عنه، ويسعى إليه، له قدرة على التلاعب بالعناصر والمفاهيم والانفتاح، تساعده في ذلك خبرته ونشاطه وبحثه. لهذا يبتعد عن الأشكال المألوفة ويهتم بالجمال الشكلي إلى أبعد ما يكون، وبالإثارة التي يحدثها مشهده البصري الجمالي لدى المتلقي، وأيضا بالعناصر البسيطة لهذا المشهد كالخطوط والألوان والنغمات وبالجوانب المركبة منها كالتكوين والأسلوب وما شابه ذلك.

باحث عن جمال ملائم للمنزلة الرفيعة التي خلقها بين الذوق الخاص، والذوق المتولد بالمشاهدة في قاعات العرض

لا يتردد الفنان في خوض المغامرات مهما كانت عناصرها غامضة بالنسبة إليه، ومهما كانت عسيرة في جوانب منها، بل ذلك يزيده شوقا في الإبحار فيها، فجرأته مبنية على ثقته بريشته وبدواخله وما تحتويه، لا يقفز فيها بل يمضي معها بكل قوامه وبكل حواسه وحدسه، يمضي بهدوء وكأنه يتحين للانقضاض على فريسته، يأبى أن يعود إلا وسلاله ملأى بثمار جناها بفهمه الصحيح لخطواته، حتى يبدأ بالكشف التدريجي لها ولمعانيها، حتى يتلاشى ذلك الغموض المرتبط أصلا بمسائل احتمالية هو بغنى عنها، يتعامل معها في الوقت ذاته كباحث عن جمال ملائم لشهيقه وزفيره، ملائم للمنزلة الرفيعة التي خلقها بين الذوق الخاص، والذوق المتولد بالمشاهدة في قاعات العرض، فالهيمنة هنا نسبية وإن كانت كفتها تتأرجح إلى جهته.

أقول نسبية لأن الأذواق المتوالدة ستتميز من خلال عوامل عديدة كالانتماء والزمن والمكان، وهذا يجعله يدرك غمار خوضه في هذا البحر دفعة واحدة، يتقن العوم فيه، ويتقن لغة كائناته وحيواتها التي على الغالب هي التي ستعلو بالقيمة الفنية لما سيجنيه في آخر مطافه وهو يعود فرحا من عومه ذلك.

هو في كل ذلك يعتمد منحى يستطيع فيه أن يتبنى الوسائل المناسبة للوصول إلى هذه الصياغات بتأويلاتها المختلفة. ومن خلال محاولتنا لتحليل بعضها سنرى كيف أنه يفك المعنى الانفعالي إلى مكونات عدة منها شعوره هو نحو الموضوع الذي يعالجه لونيا، والنغمة السائدة فيه والموجهة نحونا كمتلقين، ومقاصده من ورائها ووراء مؤثراتها، فمن خلال مشهده الفني نستطيع أن نشتق كل ذلك.

فنان يقدم هويته الخاصة
فنان يقدم هويته الخاصة

صالح النجار يميز اللون والشكل والملمس باجتهاد عال، ويعالج المواد الفنية بعناية، ولهذا فهو يقدم مشاهد جمالية تكتسب قرابتها الزمنية من تلك التطورات المتوازية لاستكشافاته بالتفصيل، ولنشاطاته الشعورية واللا شعورية بقوتهما الإضافية، فيسهم إسهاما خاصا في صقل فهمنا كمتلقين للخصائص الشكلية لتجربته. وبالطبع يمكننا أن نكتشف وجود مسارات فرعية صغيرة أو كبيرة تربط بينها، أقصد بين تلك الخصائص، وهي مسارات قد نهتم خلالها بدراسة أكثر من منحى موضوعي لها كعلاقة شخصية النجار كفنان بإبداعه، أو علاقة سمات شخصية المتلقي بتفضيلاته الفنية، أو علاقة طفولة الفنان بإبداعه، أو دراسة دوافعها وانفعالاتها وصورها وقيمها أو غير ذلك من موضوعات أخرى.

المقصد من ذلك التقاط البعض من تلك العلاقات الخاصة التي يهتم بها المتلقي كباحث عن مقولاتها المشتركة التي ستؤمن بدورها له معايشة ما ينبغي العودة إليه، بما في ذلك الأكثر بدائية للجمال والحرية معا، وثمة إمكانية لديه في تجديد وتشذيب إنتاجه بما يتلاءم مع روح العصر، سواء أكانت على مستوى الأجواء والمقولات الجمالية وموضوعاتها، أو على مستوى رؤيته ومكوناتها وملامحها، أو على مستوى آليات بحثه وتفكيره، فهو يعالج لوازمها ومترتباتها من حيث موقعها المتأرجح بين الثبات والتغيير، الثبات الذي يخرج منه، والتغيير الذي يمضي إليه متجاوزا للزمني، ومترفعا عن الانحصار في الأساس، حتى يشكل اللا منطق بحثه أو موضوعه الذي يشتغل عليه في بناءاته ومحدداتها، والتي تتصف بالسيرورة والدوام والتعالي بمعزل عن أي اعتبار آخر.

حين يغدو صالح النجار محورا أساسيا للحراك التشكيلي العراقي على نحو عام والكردستاني على نحو خاص، ومن المهمين الذين يقدمون هويتهم الفنية على نحو مختلف تماما، انطلاقا من فهمه الدقيق لمجمل المعطيات والمشارب التي تتشكل منها تجربته، وبالنظر إلى طبيعة الارتباط الذي يجمع بين تلك المعطيات بوصفها منظومات متكاملة بمعزل عن التمييز بين مختلف أبعاد مشهده الجمالي، فنستطيع أن ندرجه في خانة ما، خانة ستساعدنا في إعادة قراءة أعماله، نبرز فيها هويته أو منهجه، وتعدد عناصره ما يمكنه من إنتاج مضامين جديدة بأشكال جديدة، وبما يمكن أن تحاكي روح العصر بغاياتها وبمبانيها، بآلياتها ومعياريتها، مشكلا سياقه الخاص الممتد معرفيا في البعد التاريخي للتجربة.

هو يقوم بمنظومته على أساس الثقة ووجود علاقات ودية فيما بينها، رغم أنها علاقات تصادم وهي التي ستكسر كل الأطر الضيقة لديه، فرؤاه جديدة رغم أنها مازالت غامضة. تمتزج معاييره بثقافة محلية حينا، وحينا بثقافة وافدة لإعادة إنتاج القيم الجمالية بكل تداعياتها. فهو يتناول التناقضات عند الإنسان بدلالاتها، وإشكالياتها، يرسخ بها هويته الخاصة ورؤاه الخاصة، ففطرته السليمة، بها يزداد شوقا إلى المعارف الحقة التي ستمضي به إلى حقول خاصة لا يمكن التقرب منها ما لم يسبقنا إليها النجار.

مشروع جدي

Thumbnail

ينتقل النجار بتجربته خطوة فخطوة، ومع كل خطوة يعلن عن ذاته، ويترك أثره ليمضي نحو الخطوة الأخرى، الخطوة التي تليها، والإعلان الذي يليه، والجديد الذي لديه. فهو منذ معرضه الفردي الأول في خانقين في عام 1980 يصر على أن يكون مختلفا. والمعرض الفردي لديه هو إعلان عن شيء يقوله، عن شيء أنجزه، عن شيء ستبقى له رائحته إلى يوم الدين. نعم يصر على أنه لن يكون رقما عابرا بل فاعلا وبقوة، فهو منذ معرضه الفردي الأول يذكرنا بمشاريعه، ذاك المعرض الذي خصصه لخانقين، المدينة التي أنجبته وحضنته حتى شق طريقه، عن طبيعتها وجمالها ومعالمها الطبيعية والثقافية، عن أشجار نخيلها، ونهرها الذي يقسم المدينة إلى نصفين، بضفتين جميلتين.

هو دائما يبحث عن أفكار جديدة كمشروعه للوحة الصغيرة، أو المصغرات كما سماها والتي أتت أصغر من طوابع البريد حسب قوله، وبكامل المواصفات التي تميز اللوحة الكبيرة، دون أن يضحي بألوانه أو خطوطه أو تقنياته.

قبح الحيوانات وجه لمعاناة المجتمع
قبح الحيوانات وجه لمعاناة المجتمع

ومن أفكاره الجديدة أيضا نقل اللوحة من الصالات المغلقة إلى حيث يوجد المتلقي فكانت فكرة لوحة في مصعد، ترافق المتلقي في الصعود والنزول وهي فكرة جديدة ومثمرة. وفي 2018 أقام معرضا فرديا في مدينة السليمانية بعنوان “الأقنعة”، افتتحه الفنان إسماعيل خياط، ومن عنوانه ندرك إلى أين يمضي وأين يضع قدمه، فهو على دراية تامة بأن التجريب هو الذي سيفتح له أبوابا، وعبرها سيلج عالما يبحث عنه على امتداد نفسه.

سبق أن قدم معرض “أسود 23” في شارع المتنبي ببغداد، في دكانة رؤيا التابعة لمؤسسة رؤيا فون ديشن، وكذلك له تجربة أخرى بعنوان “بوك آرت” حين جسد قصيدة محمود درويش “أحد عشر كوكبا” في لوحات باتت من مقتنيات دار وغاليري الكلمات. المقصد من كل ما تقدم هو أن نقول إن صالح النجار لا يشرب من بحيرة راكدة، ولا يعوم فيها، بل هو كالنهر تماما يشق طريقه بماء جديد في كل حين. لهذا، فهو يفاجئنا بجديده في كل مرة وما أعماله الأخيرة التي سيقدمها لنا في دار وغاليري الكلمات إلا مثال آخر يؤكد رأينا بأنه لا يعيد نفسه، وإذا لم يكن لديه جديد لا يمكن أن يخاطر، فنحن أمام تجربة جديدة لا في كردستان العراق فحسب، بل في عموم العراق، تجربة سيبقى لها أثرها وأهميتها في المشهد التشكيلي العام، فهو العارف بأحكام الطريق، ولا أجلَّ عنده من التجريب، وبمقتضى الحال يرفض التقليد والتشبه بغيره، وخياله خصب ويحيي القلب.

لا يقترب الفنان من النهايات كما لا ينهي عمله بعلامات ما، بل يبعثر وصاياه بين ثناياه، يترك الظلال تخيم بين الأخباث، فقبح الإنسان موجب للشفاء ومميت للروح، وقبح الحيوات وجهة أخرى لما يعاني منه مجتمعنا من أمراض الفساد والانحراف، فالنجار يدفع العملية الإبداعية نحو العمق الإنساني ويستحضر منها كائنات أخرى تشبهه، كل منها تجره إلى جهة، وكل منها ملون به، إلى درجة أنك تتيه في معرفة الأصل منه، وهو أمام واجب مقدس كي يقول جملته المفيدة، فكان لا بد من اللجوء إلى الكولاج وإلى تلك الشبكة المقسمة إلى المربعات ليسدل بها أعماله، وكأنها مغشية على ذاتها بصفاتها وشفافيتها، بأفعالها وتأويلاتها.

وإذا أمعنا النظر في المشهد الجديد سنشرع في المجاهدة لإكمال المعرفة التي نبحث عنها، لنستشف مخاطبات روحانية في ذم الدنيا وأهلها، وبتوضيح آخر لنستشف الحيوات والإنسان منها ومخاطباتهم من خلال الظلال وكلامها عن التفاوت الجميل في البنية بين نمطي البحث وجدوى البحث الدائر حول التجربة وخصائصها، محاولين تحديد السبل والآليات المناسبة لهذا اللون من التجربة.

Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail
14