من جيبوتي والصومال وليبيا: الهيئة العربية للمسرح ورهان تجذير الفعل المسرحي

كان شهر أغسطس الجاري حافلا بالفعاليات المسرحية غير المسبوقة التي أشرفت على تنظيمها الهيئة العربية للمسرح في ليبيا والصومال وجيبوتي، بهدف تعزيز الفعل الإبداعي وإعادة البريق إلى خشبة المسرح في دول توقف فيها فن المسرح لسنوات بفعل الحروب والأوضاع الاقتصادية والأمنية، فاتحة المجال أمام ورشات ودورات تكوينية وبحثية تعلن عن الانطلاق نحو نشاط مسرحي أوسع في المنطقة العربية.
تواصل الهيئة العربيّة للمسرح مدّ جسور الفعل المسرحي عبر توجّه نافذ يجعل من الممارسة المسرحيّة حقّا في أكثر من مكان عربي. هذا الرهان الذي يمثّل جزءا مهمّا في نطاق البرمجة الشاملة للهيئة، يتجاوز أمكنة المعلوم والمتداول المسرحي إلى فتح مناطق جديدة للفعل الإبداعي أو مساعدة أخرى على تجاوز الظروف المتعدّدة سواء كانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو غيرهما. وفي هذا مصدر للإثراء والتبادل وتنضيج الرؤى وفتح مآلات جديدة للاشتغال التكويني والفرجوي والبحثي. في هذه السطور نسلّط الضوء على مبادرتين قامت بهما الهيئة العربيّة للمسرح في كلّ من جيبوتي وبنغازي الليبيّة.
انطلقت في جيبوتي مطلع أغسطس الجاري وتواصلت حتى الرابع عشر من الشهر نفسه دورة تأهيل مسرحي بتنظيم من الهيئة العربية للمسرح وذلك بالتعاون مع الوكالة الوطنية للنهوض بالثقافة في جمهوريّة جيبوتي والمسرح الوطني الصومالي أطّرها الفنانان المغربيان المخرج أمين ناسور والسينوغرافي طارق الربح لصالح فريقين من المتدرّبين من جيبوتي والصومال.
هذه الدورة التي احتضنت فعالياتها المكتبة الوطنيّة في جيبوتي اعتبرت الأولى من نوعها في منطقة القرن الأفريقي. وتلقّى خلالها واحد وعشرون متدربا برنامجا تكوينيّا شاملا في أداء الممثّل والإخراج والتصميم المسرحي. هذه الدورة هي ثمرة لقاء ونقاش بين الهيئة والجهات المسرحيّة المسؤولة في كلّ من جيبوتي والصومال، حيث أفاد الأمين العام للهيئة العربيّة للمسرح إسماعيل عبداللّه “وقّعت اتفاقيتي تعاون تؤسّسان لبرنامج إستراتيجي لصالح تنمية المسرح في البلدين، وبهذه المناسبة لا بدّ من تحية المدير العام للوكالة الوطنية للنهوض بالثقافة في جيبوتي محمد حسين دوعالة الذي وفّر كلّ الظروف التي تجعل من جيبوتي مركزا إقليميا لمجموعة الدول المحيطة، وكذلك لمدير عام المسرح الوطني في مقديشو عثمان غوري والذي يبذل جهوداً كبيرة في ظلّ ظروف غاية في الدقّة، وقد اجتمعت إرادات الأطراف الثلاثة على تنفيذ برامج التنمية المسرحيّة، وهذه الدورة باكورة برامج عمل كي يحقّق مسرحيو جيبوتي والصومال مكانهم في المشهد المسرحي العربي”.
جاءت برمجة هذه الدورة نتيجة للقاء العمل الذي عقد خلال شهر أبريل الماضي في جيبوتي. بإشراف غنّام غنّام مدير التأهيل والتدريب والمسرح المدرسي في الهيئة والمسؤولين من الجانبين، والذي تمّ خلاله وضع اتفاقيّة خاصّة لتنظيم هذه الدورة المشتركة، حيث تولّى عبدالرحمن محمد مهمّة تنسيق الشؤون الصوماليّة، فيما تولّى إدريس ضاهر مسؤوليّة التنسيق للدورة في جيبوتي.
واحتضن مسرح سالين بالعاصمة جيبوتي حفل ختام هذه الدورة باقتراح من وزيرة الثقافة والشباب هبة مؤمن لإعطاء الحدث بعداً جماهيريّاً، كان بمثابة إعلان عن نجاح أوّل دورة تدريب مسرحي تتمّ في جيبوتي، وتشكّل شرارة انطلاق جديد للمسرح في كل من جيبوتي والصومال، حيث تعطّلت مسيرة المسرح فيهما لأكثر من ثلاثين عاماً.
وشهد الحفل حضور عدد من المسؤولين والفنانين والمبدعين وعشاق المسرح. وبدأت الأمسية بعرض بيداغوجي مسرحي مدّته حوالي أربعين دقيقة وهو عبارة عن مخرجات لخلاصة الدورة التدريبيّة الشاملة الذي عاشها المشاركون، حيث أظهروا فيه المهارات التي اكتسبوها في هذه الدورة، معتمدين على طاقات ومواهب صقلها المدرّبان، مستمدّين من الموروث الشعبي للصومال وجيبوتي روح هذا العرض.
وكانت المشاركات الحواريّة من أبرز أحداث الأمسية، حيث شارك بعض الحضور أفكارهم حول أهميّة التدريب المسرحي والتعاون الثقافي. وأشاد المدربان المغربيان طارق الربح والمخرج أمين ناسور بالتقدّم والإنجازات التي حقّقها المتدرّبون، مسلّطين الضوء على الالتزام والرغبة التي قادت هذه الدورة.
وأعرب عبدالرحمن محمد ممثلاً للمتدربين الصوماليين عبر عن امتنانه للمنظمين والمدرّبين على هذه الفرصة التعليميّة الثرية. وقد شارك الكاتب المسرحي الصومالي سعيد صلاح وجهات نظر تنويريّة حول دور المسرح في المجتمع وتأثيره على الثقافة. وألقى مدير عام الوكالة الوطنيّة للنهوض بالثقافة محمد حسين دوعالة الكلمة في ختام الأمسية معربا عن اعتزازه بإنجازات المتدربين والتأكيد على أهميّة مثل هذه المبادرات لتعزيز الثقافة والفنون.
ولم تكن المعارف والمهارات المسرحيّة هي الناتج الوحيد لهذه الدورة، بل إنّ توجّهات مهمّة تبلورت معها، فقد وجهت الوزيرة الجيبوتية للتعاون مع الهيئة في مقترحاتها لتطوير وتنمية المسرح المدرسي، وكذلك لتنمية المسرح في بيوت الشباب المنتشرة في كل أنحاء جيبوتي، والسير بهذه المقترحات لإنجاز مهرجان جيبوتي المسرحي، هذا المهرجان الذي سيشكّل موعداً وطنياً للمسرح في جيبوتي، وموعداً إقليميا للدول الأفريقيّة ودول الجوار، وسيتمّ وضع هذه المقترحات موضع التنفيذ بتعاون وشراكة بين الوكالة الوطنية للنهوض بالثقافة والهيئة العربية للمسرح.
الأمين العام للهيئة إسماعيل عبدالله أكّد بقوله إنّ “الهيئة التي هي بيت لكلّ المسرحيّين العرب، تسعد بالتحاق المسرحيين من الصومال وجيبوتي إلى جانب إخوتهم المسرحيين العرب في هذا البيت، وإن الهيئة تضع نصب عينيها تطويراً حقيقياً وفاعلاً للمسرح في جيبوتي والصومال، وكل بقعة عربية”.
أما في بنغازي، فشهد اختتام فعاليات مهرجان بنغازي للفنون المسرحية عرض مشهديّة مسرحيّة بعنوان “ردّوا لي وجهي” في حفل اختتام فعاليات مهرجان بنغازي للفنون المسرحيّة. هذا العرض جاء كتتويج لثلاث ورش تدريب شارك بها 38 متدربا مسرحيا من كافة مدن ليبيا، نظمتها الهيئة العربية للمسرح من 2 إلى 11 أغسطس دعما للمهرجان وهي “ورشة الدراماتورجيا” قام بتأطيرها الكاتب التونسي بوكثير دومة، و”ورشة فن التمثيل” قام بتأطيرها الممثل التونسي عاصم بالتهامي، و”ورشة السينوغرافيا” قام بتأطيرها السينوغرافي العراقي علي السوداني.
وقد صرّح المسرحي الليبي علي الفلاح رئيس اللجنة الثقافيّة للمهرجان وعضو مجلس أمناء الهيئة العربيّة للمسرح أن “الهيئة تسعى دائما لنشر الثقافة والمعرفة المسرحيّة في أرجاء الوطن العربي، ودعمها للمهرجان بثلاث ورش مسرحيّة كان له الأثر الكبير في جعل المهرجان عرساً للمعرفة والعلم والاطّلاع على التجارب المسرحيّة في الوطن العربي، من خلال حضور ثلاثة من الأساتذة الأجلّاء في المسرح، حيث عمل ثلاثتهم مع مجموعة من الفنانين الليبيّين العاملين في الوسط المسرحي، ونقلوا لهم معرفتهم وتجاربهم، وقدّموا في ختام ورشهم مشهدا مسرحيا بعنوان ‘ردّوا لي وجهي’ مأخوذة فكرته من ورشة الدراماتورجيا، وجمع حواراته ومثّله فريق ورشة التمثيل وعمل فريق ورشة السينوغرافيا على الإضاءة ومؤثرات المشهد المسرحي”.
وتابع “هكذا تكاملت الورش الثلاث لتقدّم للحضور نتاج عمل جماعي كان له الصدى الجميل الذي جعل القائمين على المسرح في ليبيا يطالبون باستمراريّة هذه الورش في باقي مدن ليبيا، لتعمّ الفائدة على أكبر عدد من الفنانين الليبيّين، ومن جانب آخر عقدنا عدّة لقاءات مع دور النشر والتوزيع في ليبيا، لبحث إمكانية نشر الكتاب المسرحي في ليبيا، وإن شاء الله سنجد قريباً إصدارات الهيئة العربية للمسرح تباع في مكتبات ليبيا”.
وأعلنت منيرة الغرياني مدير عام المركز القومي للمسرح عن عودة الفضاءات المسرحيّة للعمل، كما أعلنت أنّ ليبيا ستشهد في طرابلس قريبا عودة المهرجان الوطني للمسرح بعد توقّف دام خمسة عشر عاماً، مؤكّدة الحرص على الشراكة مع الهيئة، خاصّة في باب التأطير والتدريب ومسائل النشر وترويج الكتاب المسرحي.
وعاشت بنغازي على إيقاع المهرجان الذي نظمته فرقة المسرح الشعبي (كانت صحيفة “العرب” في متابعة لجملة تفاصيله) وأرادت له أن يكون مناسبة تعيد الروح إلى المسرحيّين في ليبيا، وتنعش الأمل بتجاوز الصعوبات التي واجهها ويواجهها، وقد حرص منظمو المهرجان على التعاون مع الهيئة العربية للمسرح لدعم المهرجان بالورش وبمعرض للكتاب افتتحه كلّ من وزيرة الثقافة والفنون ووزير الاقتصاد ووزير الشباب والرياضة وضمّ في جنباته مئتين وثلاثة عناوين من منشورات الهيئة.
وصرح الأمين العام اسماعيل عبدالله بهذه المناسبة قائلا “كنّا وما زلنا، وسنبقى مع المسرحيّين في ليبيا في برامجهم وخطواتهم الباعثة للحياة والأمل، تماماً كما كنّا معهم في عام 2013، لأنّنا نؤمن بأنّ المسرح يظلّ إشارة إلى الحياة وبشارة للأمل، والهيئة العربية للمسرح وبتوجيه من الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، تحرص وتعمل على رفع لواء المسرح، دون أيّ حساب سوى إعلاء قيم الحق والجمال، ونحن ماضون بإذن الله نحو تعميق هذا المسار وتجذيره، فالمسرح مسؤوليتنا جميعا”.
وتواصل الهيئة العربيّة للمسرح جهودها في مختلف الدول العربيّة تكوينا وبحثا ودعما من خلال شراكات واتّفاقيات ومآلات نشاط مضبوطة تعزيزا للفعل المسرحي في كلّ أرجاء المنطقة العربيّة، إلى جانب جهودها الأكاديميّة في إنعاش المكتبة العربيّة من خلال سلسلة الإصدارات التي تشمل الكتب والمجلّات، إضافة إلى جوائزها الرسميّة التي تهتمّ بمشغل الكتابة المسرحيّة للكبار وللأطفال والمجالات البحثيّة.