تسع نساء يمارسن الفن بالعين و"اليد" والنسيان

الناقد الفني المغربي بوجمعة أشفري يكشف مراتب الجسد في كتابه "العين والنسيان".
الأحد 2023/08/20
التعبير بالعين واليد والجسد بأطرافه

الفن ظاهرية الجسد. الجسد أصل الفن وبالجسد نكون أو لا نكون، ولا فن إلا به وعبره، ومن خلال أطرافه: العين، اليد، الجلد، الدماغ. هذا ما تؤكده متابعات الناقد المغربي بوجمعة أشفري لتجارب عدد من الفنانات العربيات والغربيات في كتابه النقدي المثير "العين والنسيان".

الجسد هو الوسيط الأولي والأخير لكل تجليات هذا المسمى عملا فنيا. تقود إليه العين في النور وفي الحلم، وأما اليد فمرشدنا إليه في الظلمة وفي العمى. تبصر اليد في غياب الضوء. تغدو عينا للنسيان، لأن "تواطؤ العين واليد، تواطؤ مآله العمى والمحو” (العين والنسيان، ص 9).

تتذكر اليد بالإزالة والاجتثاث والطمس بالإضافة "repentir" ( تصويب - "التوبة" عن- أخطاء الرسم الأولى)؛ وتتذكر العين بالحلم، بإشعال قنديل المخيلة الخافت، والاهتداء بنوره الدافئ إلى إعادة تدوير/ تأويل الذي كان والتطلع إلى الذي سيأتي. وفي كل من الحالتين يصير الجسد الفاعل والمفعول به، الحال والصفة، المنعوت والناعت، القائد والمقاد.

ليست العين آلة في أمر الذاكرة المتقدة والمتيقظة، بل درب موصد يقود إلى التذكر بالنسيان. فـ”النسيان هو عالم الصور” (برنار نويل، كتاب النسيان، ص 17). تخلق العين صورها بنسيانها، لأننا لا نصنع سوى الذكريات، لا الذاكرة. لا نتذكر، إذن، إلا بالمحو. أما اليد فحصاد ذكريات اللحم/ البدن، الأداة الأكثر فتكا والأشد دمارا عبر التاريخ. تملك اليد تفاصيل الجسد كاملا/ الجلد.

لهذا فـ"حركات اليد خارج/ داخل السندِ/ القماش، أو في مُباشرتها لمواد النحتِ أو التنصيبات، تَنتُجُ عملا يعتملُ في ‘معمل الجسد’؛ والجسدُ، كما يقول دولوز وكَواتاري 'يُنتِجُ الطاقة والحرارة والأصوات’، كما ينتجُ كذلك الأشكال والهيئات والأطياف. الرغبةُ، إذن، هي محلّ انفعال الجسد.. محلٌّ سالبٌ/ سائلٌ لا يتجمّد. الرغبةُ لا سابق ولا لاحق لها” (العين والنسيان، ص 11). و"الرغبة تدوم لأنها شحنة في الجسد تنبعث باللمس لا بالنظر.." (ص 81).

الجسد صرخة العمل

◙ إبحار في متاهات الجسد
◙ إبحار في متاهات الجسد

يقودنا الباحث في مدارج الجماليات بوجمعة أشفري، في كتابه “العين والنسيان” الصادر عن حلقة أصدقاء ديونيزوس، إلى متاهات الجسد، وذلك عبر محطات يستقرئ فيها صنيع “أيادي وعيون”/ “أجساد” فنانات عربيات وغربيات، سالكا سُبل لغة تقع إيقاعاتها المضيئة بين الشاعري والتحليلي الطافي فوق أمواج بحر هادئ وعميق، متتبعا حركات الجسد المترحل بين أشكال الفنون كلها، من الصباغي إلى العري الطافح بالمعاني والدلالات المضطربة والمخاتلة.

ينفتح الكتاب على تسع تجارب نسائية مغربية وعربية وأجنبية، يعالجها نقدا وتحليلا (بين الكتابة والترجمة والتوليف والتأويل). المشترك بينهن هو شغف التعبير بالعين واليد، مبدئيا، والجسد بأطرافه كاملة ذهنيا وبدنيا، أساساً.

◙ ليست مهمة الفن أن يجعلنا نرى ما ندركه، بل جعلنا نُدرك ما نراه من زاوية مغايرة، والعمل على استبصار اللامدرك 

بدءا بمارينا أبراموفيتش التي -في إحدى عروضها- “تُخرج الباطن من الداخل وتُدخله في الخارج. يصبح المشهد تجويفا/ منفذا من لحم آدمي في مُشتهى عُريهِ، ولا يُمكنكَ الولوج فيه دون أن تلامس بجسدكَ عري الذكر والأنثى، إما تكون وجها لوجه أمام الرجل العاري، أو تكون وجها لوجه أمام المرأة العارية، سواء كنت أنت الذكر أو الأنثى. هل الأمر يتعلق بالإثارة، بالإيروتيكا؟” (ص 17 – 18).

يترك أشفري السؤال معلقا، دون إجابة، كأن القارئ وحده المنوط به البحث عنها. بينما يُتبعه بسؤال أكثر استفزازا، يفتح الأفق على كل الاحتمالات العمودية والمستديرة والعصية، ليقول “أليس بيان الجسد هو لحم العري؟” إذ عنده تعمل أبراموفيتش على إخراج “المشهد من كونه الكلامي لتُدخله إلى كونٍ فعليٍّ/ تفاعليّ، الجسد فيه هو صرخة العمل”(ص 19).

بعد الانطلاق من محطة الفنانة الصربية المثيرة للاستفزاز في أعمالها البدينة/ البيرفورمانسـ(ـية)، التي تظهر في إحداها وهي تتبع “إيقاع 0”، تحوّل بدنها إلى مسرح لهو، ومن ثم إلى مسرح جريمة، بفعل أيادي “نخبة” المهتمين بالفن. لقد “كان هناك بالفعل فريق معتدٍ وفريق حمائي. فبعدما صوب أحدهم المسدس نحو رأسها، نشب عراك بين الفريقين. يمكننا القول إن هذا البيرفورمانس رجَّ جميع الحضور” (ص23).

خطى اليد

◙ سيرورة تشكيلية تسعى صوب التعدد
◙ الانفلات من الشكل يمنح الفنان حرية أكبر

يمر صاحب الكتاب إلى محطة كائناتها لا تُحتمل خفتها. حيث تتحوّل اللُقى إلى منحوتات مُلحّمة وتتحول الصباغة إلى ذريعة جمالية لسيرورة تشكيلية تسعى صوب التعدد. إذ “باختصار، إن أهم مميزات النهج الفني لـلكندية ماري جوزي غْوا، والأمر هنا محوري وأساسي، هو أنها لا تُحدّد الشكل” (ص 33).

الانفلات من الشكل يمنح الفنان حرية أكبر بمقدورها استجلاب الباطن إلى الظاهر، وجعل الـمُطمور مرئيا، والمنطوي بارزا. فليست مهمة الفن أن يجعلنا نرى ما ندركه، بل جعلنا نُدرك ما نراه من زاوية مغايرة، والعمل على استبصار اللامدرك في مستوى ينطبع بما هو سيكولوجي أو يروم صوب عملية تبتغي الوعي باللاوعي، وملامسة المحسوس، عبر استحضار -يبدو متناقضا- للعقلاني والحدسي واللاعقلاني معاً. فلا ينبغي أن يُبنى العمل الفني على أي ثنائية تؤطره في مسلك وحيد وبعد واحد. فكل عمل فني هو إرباك للوجود، لكونه مثل الجسد، استعارة مثلى وفضلى للإيروس. لهذا “يُلاحظُ، يقول أشفري، منذ سنوات، أن منحوتاتها (أي الفنانة) تأخذ شكلها عبر تحديات متجددة باستمرار، وبمقاربة ونهج يزدادان تعقيدا ويتطلبان تحكّما تقنيا سَمِيّا مع وافر من التبصّر”(ص 32).

◙ ﻛﻞ ﻋﻤﻞ ﻓﻨﻲ ﻫﻮ إرﺑﺎك ﻟﻠﻮﺟﻮد
◙ كل عمل فني هو إرباك للوجود 

لا يتحقق الإيروس بالممارسة الجنسية فحسب، بل لا يتحدد بها، فهو خلخلة لكل مسعى للتكاثر والإنجاب، لهذا مثلما يقول أوكتافيو باث “الإيروسية هي استعارة للفعل الجنسي” وليست إقامة فيه، فيغدو “العقم شرطا من شروطها” (اللهب المزدوج، ص 10 – 11).

حينما تُصَوِّر غْوا “جسدا يضم جسدا، صورة رجل وامرأة عاريين خلف سحابة صباغية، (..)، (فـ) كأنهما يمارسان الحبّ خارج ما هو متعارف عليه، أو كأنهما يستعدان لذلك عبر التقابل عن بعد، وجها لوجه، في حالة استنفار تكونُ حركتهُ الأساسية فتحُ الفمِ والصراخ بألم” (العين والنسيان، ص 34). تلتقي هذه الاستعارة العنفوانية للصراخ مع بيرفورمانس أبراموفيتش، حيثُ يقول أشفري “يلوح الجسدُ في مناطقه القصوى، في الحدّ الذي تنتفي فيه كل المواضعات الأخلاقية. هنا تصبح ‘الصرخة’ جسدا، ويصير الجسد جسدين، ويبدأ التفاعل بين الاثنين خارج منطق الخير والشر. حتى في ‘الصمت’ يتكرر هذا المشهد”(ص 16).

الصرخة مسموعة عند الفنانة الصربية والصمت مرئي، أما عند الكندية فكلاهما مرئيان، وما صوتهما إلا استعارة بصرية تتحول إلى "صوت" في ذهن/ أذن الناظر. ولا تكتفي هذه الفنانة الأخيرة بما هو صباغي فهي "فنانة حدسية، بامتياز، تُعبّر بالصباغة بقدر ما تُعبّر بالنحت باصطفائها للمعدن مادةً في ممارستها الفنية هذه أو تلك" (ص 30)، بينما تنتمي أعمالها إلى "سُرّة البطن"، إلى الحنين الجنيني إلى “الرحم”، لهذا كثيرا ما تعبّر عن تلك الحلات المشبعة بألم النزع والخروج وتمزيق البطن.

تقودنا رحلة الكتاب إلى محطة نسائية أخرى، تحلم بأن يصير القمر جبنا أخضر. في هذه الوقفة اختار أشفري أن يجعلنا ننصت للترجمة نقدا، وليتوقف بنا عند نص الناقدة الفنية جيلي كرين ويسمعنا إياه مُعرّبا، عن تجربة الفنانة الفرنسية كيين سوهلال التي تعمل على منجزات فنية نحتية تأتي بوصفها بيانا جماليا يُعلي من الأشياء المألوفة والطبيعية، المعاصرة والتقليدية. وذلك ضمن اشتغال يروم الإعلاء من المفاهيمية عبر طقوس استعادة المنحدر من الثقافات المختلفة، من خلال سيرورة تهجين الأشياء لتوليد اللامتوقع. ولهذا “بإنشائها لتصوّر عن النحت يتموضع بين الجيولوجيا، الإثنولوجيا والأركيولوجيا، تقيم سوهلال جسورا بين الأراضي، بين الفن والحرفية، بين الطبيعة والثقافة، بين الغرب والشرق، بين المصطنع والطبيعي" (ص 42).

في سكة تسوقنا إلى صنائع اليد، إلى تطويع الكتل الضخمة، وتقشير الرخام بمعول الأيادي الحادة، تتقاطع مع التجربتين السابقتين (الكندية والفرنسية) من حيث مبدأ ممارسة “اليد بعدّها فعل الخلقِ، منذ أن أصابتها لوثة التفكير، لحظة الوقوف على عتبة الوجود” (ص 46). ولأن الحجر ذاكرة الوجود على هذه الأرض، وذريعة للخلود الرمزي في مواجهة الموت الذي استعصى على البدائيين فهمه، فحوّله هؤلاء إلى صفائح منقوشة ومنحوتة/ أرواحهم حية تدوم.

◙ في محطاته النسائية يتوقف قطار النقد والترجمة التأويلية لأشفري عند الإرباك اللوني وحالة الطمس الكبرى لمعالم التجسيد

 يتبع الفنانون المعاصرون المسالك نفسها التي اهتدى لها الأوائل في استنطاق صمت الحجارة؛ المغربية إكرام القباج واحدة من هؤلاء الذين يبنون صروحا مجردة من المعالم المشخصة، والعامرة بالتعبيرية المشفرة والمرموزة متتبعة خفة اللعب الطفولي ودروب الأوائل في تطويع الحجارة. إذ “هناك لهوٌ خفيٌّ تمارسه يد النحاتة إكرام القباج مع الحجر، (يخبرنا أشفري)، لهوٌ يحيي هياكل الحجر وهي رميم. لهوٌ نُحس به وهو يتعبَّرُ في كل كائنات/منحوتات إكرام القباج" (ص 48).

يتتبع إذن صاحب “أرنب الغابة السوداء” خطى اليد، وهي تسعى إلى تشكيل متاهات الأشكال الدالة، وتختلق هيئات هجينة أو ترسم بالصباغة وجوها غامضة أو تتحسس تفاصيل جسد على قماش، أو تطمس وتصوّب وتصحح بالمحو والإضافة. يكاد يقع مركز الجسد كاملا في اليد، في أطراف الأصابع بالتحديد، التي تجعل الأشياء، بعد إزالة شيئتها، "طوع اليد" بالتعبير الهايدغري، لا بوصفها أدوات. فالبيانو لم يعد خشبا أصمّ بالنسبة إلى العازف، مثلما هي الحال للحجارة بالنسبة إلى النحات، الذي يجعلها “طوع يده” ينحتها ليولد منها “أعمالا فنية”. بينما “هناك دائما فراغ مشبع كلما لامست يد النحاتة القباج الحديد أو الخشب أو الرخام أو الحجر. انطلاقا من هذا الفراغ/الفجوة تبدأ حكاية سيرة هذه المواد، خاصة الحجر.." (ص 46).

الإرباك اللوني

 ◙ نصوص نقدية بالاستعارة المدججة بهواء الشعر
◙ الأنين الذي يقترن باقتران الألم بالجسد

يكتب بوجمعة أشفري نصوصه النقدية بالاستعارة المدججة بهواء الشعر، وبكاف التشبيه -المضمرة وجوبا- الذي لا يروم إلى المقارنة بل إلى الإرباك والتشويش، مما يجعل المعاني مغلّفة بطبقات كلما قشرتها تعاود الظهور من جديد، في متاهة هرميسية، الداخل إليها لا يشبه الخارج منها. يوصله هذا المسلك المتاهي إلى محطة الإرساء عند ترجمة تصير نافذة نطل من خلالها على عمل نينار إسبر والجسد الذي يتحدى تاريخ الفضاء العمومي، نص/ نافذة للكاتبة أرواد إسبر.

 إذ “في البيرفورمانس يعيد جسدها صياغة الفضاء، يفرض إيقاعا، وظيفة جديدة ومحيطا مختلفا. جاثمة على قمة ناطحة سحاب، باحثةً عن صرفٍ للحميمي والفضاء الفضاء الفخم، تعتريها اللذة في نحت الفضاء” (ص 54). يتحول الجسد بالتالي إلى وسيلة نحت في مهمته الاستعراضية، التي تنحدر من أولى الطقوس البدائية التي حامت بالأجساد حول النار أو اتبعت إيقاع ضرب الدف استحضارا لروح جَدّ راحل، أو تراقصت حول طوطم من رأس طائر نادر. وكل حركات جسدية تنحت الفضاء الذي وضعت فيه، بجعله متناغما ومندغما معها وعبرها.

ضمن توليف التأويل بالترجمة، وإدغام صوت المترجم/ المؤول بإيقاعات الكاتب الأول، عمل بوجمعة أشفري على ترجمة نصين آخرين، يسيران في المتاهة التي يسلكها مقتفيا آثار الجسد الذي "يتسامى مغرقا في العلو، فيتوهج ضوؤه أنينا في الأعالي"، كما يقول في كتابه "الفن بين الكلمة والشكل" (ص 40).

◙ في محطاته النسائية يتوقف قطار النقد والترجمة التأويلية لأشفري عند محطة الإرباك اللوني
◙ في محطاته النسائية يتوقف قطار النقد والترجمة التأويلية لأشفري عند محطة الإرباك اللوني

الأنين الذي يقترن باقتران الألم بالجسد، ولولاه ما كان ليكون الحبّ. والحبّ صيغة الألم الإيروسي، الذي يهتدي إلى دروب الرعشة غير مكتملة. وهو ما تُفصح عنه الفنانة الفرنسية كوليت دوبلي حينما تقول "مشروعي يسبر أغوار هذه 'الرعشة'، ذلك لأنه يستلزم تمرينا شاقا إلى أبعد حدّ للعبارة في اتجاه إنهاكها وإعيائها" (العين والنسيان ص 59). والرعشة إيهام بالمجيء دون الوصول، إذ لا يعوّل عليها إن سكنت عنده.. لهذا إنها في "ميلاد جديد" ودائم، لكونها بنية من الرغبة الأبدية العودة، لا تتحقق أبدا عند أي إشباع، وتستحيل دون الجسد/ اللحم.

ضمن صيغة اعترافات اللحم الفوكوية، تعمل اللبنانية آني كوكدجيان في التصوير الصباغي "لإنعاش الحياة في الجسد"، إذ "تشعر، وأنت تتأمل كائناتها، كأنّ عنفا خفيا يندفع باتجاه الجلد الذي يحجب اللحم، ليوحي لك بما يشبه مواقف تعذيب النفس، بتر الأعضاء، إدخال/ دسّ اللحم في اللحم" (ص 63).

عبر الصدمة والإثارة وتصوير الجسد في مواضع تقترب من حالات الجنون والألم الطافح واللذة الغارقة في لعق ذاتها، تصوّر كوكدجيان حالات الإنسان النفسية المعاصرة في أشد حالات المتعة العمياء، انتصارا للإنسان والإيروس، والحمق لا العقل، الذي يصير أو يغدو الأشد فتكا. إذ “إن تحقق المشاركة الفعلية لتجربة الجسد في العملية الإبداعية يقتضي الإفصاح عن الاختلافات المحجوزة والمجمدة في أعماق الجسم البيولوجي أولا، وفي أعماق الجسد النفسي ثانيا”.

في محطاته النسائية يتوقف قطار النقد والترجمة التأويلية لأشفري عند محطة الإرباك اللوني، حالة الطمس الكبرى لكل معالم التشخيص/ التجسيد. لكنها حالة إيهامية فحسب. فحينما عمد ماليفيتش لمربعه الأسود على خلفية بيضاء، قبل أن يدمغه بالأسود الكامل، فإنما ليصنع حُجبا مونوكرومية، سِتارة مسرحية تستر المشهد الذي سوف تكشف عنه بعد حين.

يستر ماليفيتش الطبيعة كاملة خلف أسوده، ليترك للمخيلة كامل الأحقية في بناء ما تريده من مشاهد. والمونوكروم عند المغربية كنزة بنجلون، يخبرنا أشفري، “يحكي قصة خفية نسجتها، منذ سنوات، ولا تزال، مع مفهومين جماليين، هما الصمت والفراغ. علاقة تتجلى في الانعكاسات الضوئية المنبعثة من طيات الأحمر والأصفر والأزرق.. نور شفاف يتصادى هنا وهناك، في هذا اللون أو ذاك، في الأسود يتراقص لهباً”(ص 73). بينما، يضيف، "النسيان هنا عندها حركة الجسدِ تُّجاه القماش، ذلك لأنَّ الإصغاء لأصوات الفراغ يتطلّب أقصى درجات النّسيان" (ص 77).

تتوقف رحلة بوجمعة أشفري، في جزئها الأول، عند محطة تغيب فيها الخطوط والظلال. وضمن اشتغال على اللون دائما، لكن ليس في بعده الأحادي الحجّاب وإنما في تعدده الفُعلاني والانفعالي. إذ يتخطى عمل ليلى الشرقاوي مفهوم اللطخة والضربات اللونية؛ ليتأتى الفضاء بعلامات تأخذ أشكالا متعددة ومختلفة: دروب، أزقة، قباب، أقواس، خطوط ملتهبة.. (ص 84) لينعدم الفارق بين التجريد والتشخيص، وتنصهر المسافات في ما "تقدمه لنا الفنانة من علامات وآثار لما التقطته عينها في مسار حياتها الشخصية والبصرية" (ص 85)، بينما لا تلامس يدها الأشياء بل "تتذوقها".

12