هل ينجو إصلاح التعليم في تونس من اللعبة السياسية

الحكومة تحتاج أن تستمد جرأتها من أسلوب الحسم الذي يتعامل به الرئيس سعيد مع الملفات وأن تشكل المجلس الأعلى للتربية وتعطيه الضوء الأخضر للبدء بالتغيير.
الأحد 2023/08/13
أجندات متضادة تضع الإصلاحات في حلقة مفرغة 

ستجري تونس استشارة وطنية حول إصلاح التعليم، وستنطلق هذه الاستشارة في منتصف سبتمبر مع عودة المدارس والمعاهد من العطلة السنوية. الهدف من الاستشارة حسب ما أعلن وزير التربية محمد علي البوغديري هو السماح للتونسيين بالإدلاء بآرائهم ومواقفهم بخصوص المسائل التربوية.

يبدو الأمر من نوع الترف الديمقراطي الذي غرقت فيه تونس من بعد ثورة 2011. كل شيء نعيده إلى الناس يتحدثون فيه بعلم وغير علم.

ويعرف الوزير أن هذا الجهد لن يضيف الكثير لاعتبارات من بينها أن التونسيين الذين ستتوجه إليهم الاستشارة ملل ونحل وعندهم أفكار متناقضة من الصعب الجمع بينها، وأن الوزارة في الأخير ستضع مقاربة من عندها وتضفي عليها بعدا شعبويا ليس أكثر لإسكات من يختلف معها بشأن الإصلاح، ولتأمين نفسها من أيّ انتقادات فيما لو فشل الخيار الذي تبنته من مستخلصات الاستشارة.

◙ الوزير البوغديري يحتاج أن يسمع تساؤلات الناس بشأن نجاح التعليم في الماضي وفشله في الحاضر. هذا السؤال للمقارنة
الوزير البوغديري يحتاج أن يسمع تساؤلات الناس بشأن نجاح التعليم في الماضي وفشله في الحاضر. هذا السؤال للمقارنة

تحتاج الحكومة التونسية أن تستمد جرأتها من أسلوب الحسم الذي يتعامل به الرئيس قيس سعيد مع الملفات، وأن تشكل المجلس الأعلى للتربية وأن تعطيه الضوء الأخضر للبدء بالتغيير، أولا لربح الوقت، فالاستشارة ستعني عاما آخر من الوضع الفوضوي الذي يعيشه قطاع التعليم في تونس، وثانيا لإظهار أن الوزارة جادة في الإصلاحات بنفسها، وأنها لن تترك المهمة لغيرها كما فعلت وزارات سابقة.

في سنوات سابقة كان إصلاح التعليم مزادا سنويا للشعارات لكن من دون التحرك ولو خطوة واحدة. والسبب أن الوزارة لا تمتلك رؤية ولا تريد أن يقال إنها هي من قدمت المقترحات وفرضتها فتحاسب على الفشل، ولذلك كانت الحيلة التي اعتمدها الوزراء السابقون هي تحويل الإصلاح إلى مهمة جماعية تشترك فيها النقابات كطرف رئيسي وتأتي بخبراء من صفها فيما تكتفي الوزارة ببعض إدارييها للمشاركة في استعراض الإصلاح، والجميع يعرف أن الأمر لا يتجاوز اللعبة السياسية.

في زمن سيطرة النقابات ووضع يدها على التعليم، كانت الحكومات تأتي بوزير مقرّب من النقابة ضمن حيلة سياسية للإلهاء، بمعنى أن الوزير إما أن يروّض النقابة أو أن يسير في صفها. الذي حصل أن الوزراء منذ 2011 سلّموا مهمة التعليم للنقابات ضمن مسار الإصلاح فسيطر أنصارها على كل منافذ الوزارة وتحكموا بالتعيينات ووضعوا أنصارهم في مختلف المواقع.

هل تحركت مهمة إصلاح التعليم خطوة أو خطوتين إلى الأمام. أبدا، فما جرى لم يتجاوز تحويل هذه المهمة إلى استعراض كلامي واجتماعات وإنفاق أموال على الفاضي، من دون أن يُسأل أحد أو يُحاسب، وهذا مفهوم، لأن هذه هي الخطة من الأصل، أي إسكات النقابات واسترضاؤها بأيّ صيغة، ولو بتمليكها الوزارة وما فيها.

أظهر الوزير الجديد للتربية، ورغم أنه نقابي سابق وشغل موقعا متقدما في اتحاد الشغل، إشارات قوية على رغبته في تحرير الوزارة من فوضى التوظيف النقابي، وهو يستمد قوته من قيس سعيد نفسه، الذي يريد أن تقف النقابات عند حدودها، وأن تتحمل الوزارة المهمات التي تخصّها، ومن هذه المهمات هي إصلاح التعليم.

لكن لماذا الاستنجاد بالاستشارة الوطنية وتبديد عام آخر في انتظار وصول مقترحات من لجان تتشكل في مختلف الوزارات والإدارات وسبر مواقف الناس هنا وهناك. أليس الأجدر أن تبادر الوزارة إلى تقديم مشروع خاص بها وتكلف بذلك مجموعة من المتخصصين وتضبطهم بتاريخ واضح.

توحي الاستشارة في أذهان الناس بتمرير مشروع والسعي لإكسابه مشروعية شعبية. هذا قد يحدث في السياسة مثل تعديل الدستور، لكن في التعليم كما في الاقتصاد وغيرهما، فإن الجهة الممسكة بالملف هي المخوّلة سياسيا وشعبيا بالاقتراح وتنفيذ الخطط للوصول إلى نتيجة ستحاسب عليها إيجابا أو سلبيا.

◙ من حق الوزارة أن تفتح ذهن التلميذ على المكاسب التعليمية الحديثة، وأن تنوع ثقافته وذوقه، لكن ليس بإغراقه بالمواد فيعجز عن استيعاب أغلبها
من حق الوزارة أن تفتح ذهن التلميذ على المكاسب التعليمية الحديثة، وأن تنوع ثقافته وذوقه، لكن ليس بإغراقه بالمواد فيعجز عن استيعاب أغلبها

هل يمكن مثلا أن تجري وزارة المالية استشارة بسنة حول طرق تعبئة الموارد المالية، هل ستقول للناس ما رأيكم أن نزيد الضرائب على هذا القطاع أو ذاك.. تلك مهمتها وعليها أن تتحمّلها.

ونأمل أن يتم التسريع بتشكيل المجلس الأعلى للتربية ليكون فضاء حقيقيا لملامسة مشاكل التعليم، وألا يكون هيكلا فوقيا يكتفي بإطلاق التصريحات الكبرى عن إصلاح التعليم، دون الخوض في الشروط الموضوعية التي قادت إلى تراجع المدرسة العمومية، ومن بينها الوضع الاجتماعي للمعلمين والأساتذة، وفهم خلفيات الدروس الخصوصية، وعدم ترك هذا المجلس للعبة تقاسم النفوذ بين الوزارة والنقابة مثلما حصل في لجان سابقة للإصلاح.

أول شروط هذا الإصلاح النأي به عن التسييس من السلطة ومن النقابات وتوسيع دائرة المساهمين لتشمل الخبراء في مجال التربية.

ومن المهم أن تتدارك الوزارة فكرة استنساخ تجارب الآخرين في إصلاح التعليم بالسير وراء التجربة الفنلندية أو ما يعرف بمقاربة الكفايات. لكل دولة ظروفها وثقافتها وإمكانياتها. وتونس تحتاج أن تضع لنفسها طريقا يتماشى مع خصوصياتها وإمكانياتها البشرية والمالية.

هناك تجارب تنجح وتحقق نتائج كبرى في بلد ولا يقدر عليها بلد آخر إذا اعتمدها، فلا يمكن قياس تجربة فنلندا في ظروف الإصلاح المريحة بظروف بلد لديه مشاكل بنية تحتية في مؤسسات التربية والتعليم، وتتسم أقسام الدراسة فيه بالاكتظاظ، ويعجز عن توفير الحد الأدنى من الإمكانيات لمساعدة التلميذ على القيام بالتجارب.

يحتاج الوزير البوغديري أن يسمع تساؤلات الناس بشأن نجاح التعليم في الماضي وفشله في الحاضر. هذا السؤال ليس استرجاعيا وليس فيه حنين إلى الماضي. هو سؤال يقوم على المقارنة بين نظام تعليم كان يدرّس مواد محدودة للتلميذ فيتقنها ويتميز فيها وبين نظام جديد يريد أن يدرّس عددا كبير من المواد للتلميذ فيأخذ “من كل شيء بطرف”، ما يعني الحصول على خريجين محدودي المعارف والإمكانيات.

أول شروط إصلاح التعليم النأي به عن التسييس من السلطة ومن النقابات وتوسيع دائرة المساهمين لتشمل الخبراء في مجال التربية

من حق الوزارة أن تفتح ذهن التلميذ على المكاسب التعليمية الحديثة، وأن تنوع ثقافته وذوقه، لكن ليس بإغراقه بالمواد فيعجز عن استيعاب أغلبها. ليس هناك شك في أهمية الفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح والتربية المدنية والإسلامية والرياضية والتكنولوجية والتاريخ والجغرافيا، لكن هل يقدر تلميذ الابتدائي أن يأخذ من هذه المواد كلها بطرف، وماذا سيفيده هذا الطرف؟

التعليم في حاجة إلى مراجعة هذا الإغراق باستشارة وطنية أو دونها. صحيح هناك مستفيدون من هذا الوضع قد يعارضون التغيير من معلمي الدروس الخصوصية إلى أصحاب الكتب الموازية التي تحولت إلى منافس قوي وسوق كبيرة. لكن الحكومة إذا أرادت فعلا أن تنهض بالتعليم العمومي كما تحدث عن ذلك الرئيس سعيد، فعليها أن تجترح طريقا جديدة لتجاوز هذا الوضع.

هناك صيغة تقوم على تقليص المواد التعليمية للاكتفاء بالحساب والإيقاظ العلمي واللغات (العربية والفرنسية والإنجليزية)، والتربية المدنية والإسلامية مع اعتماد نظام النوادي لتدريس بقية المواد على أن يكون ذلك إجباريا حسب اهتمام التلميذ وميوله، مثلما كان يحصل سابقا، أو أن يتم تعليم بعض هذه المواد وإرجاء الأخرى إلى التعليم الثانوي والتخصص فيها بالجامعة.

التعليم العمومي يجب أن يطوّر نفسه ويحسّن شروطه ليكون قادرا على منافسة التعليم الخاص الذي تحول إلى ملجأ للكثير من التونسيين في ظل الغياب الكامل للدولة وترك القطاع لسماسرة الإصلاح.

6