رحلة غنائية جديدة لـ"الهطّايا" التونسيين في مسرح الحمامات

استعادة التراث الفني ظاهرة متكررة قد تتحول إلى تشويه عن غير وعي.
الاثنين 2023/07/31
نضال اليحياوي فنان طموح مرتبط بجذوره

من شمالها إلى جنوبها تزخر تونس بإرث فني عريق خاصة من القصائد والأغاني التي ما تزال تمثل وجدان التونسيين إلى اليوم وستبقى خالدة يستلهم منها الفنانون على اختلاف أجيالهم، وآخرهم الفنان التونسي نضال اليحياوي الذي قدم عرضه على خشبة مسرح الحمامات ضمن مهرجان الحمامات الدولي.

شهدت فعاليات الدورة السابعة والخمسين من مهرجان الحمامات الدولي ليل السبت الماضي تقديم حفل مزدوج جمع المغنية والشاعرة والملحنة الموريتانية نورة منت سيمالي وعرضا موسيقيا بعنوان “مسرب الهطايا” للفنان التونسي نضال اليحياوي.

وإن قدمت الفنانة الموريتانية ألوانا من موسيقى بلدها وخاصة بعض الأغاني التي تدور في جو روحي في تماس مع الأغاني الصوفية مع اختلاف في الإيقاعات المعتادة في هذه الأغاني التي تعتمد غالبا نمط الأناشيد والتكرار، فإننا سنخصص الحديث لعرض “مسرب الهطّايا” ملامسين من خلاله ظاهرة استلهام التراث.

يستلهم “مسرب الهطّايا” أغاني الشمال الغربي التونسي ببيئته الفلاحية والبدوية وأغاني الجنوب المتاخم للصحراء، حيث جمع نضال اليحياوي بين شمال تونس وجنوبها عبر أغان تؤرخ لحقب سابقة من تاريخ تونس، خاصة تلك الأغاني التي ارتبطت بالحصاد، والهطّايا في اللهجة التونسية تعني العمال القادمين من الجنوب لفصل الحصاد والعمل الفلاحي في الشمال الغربي التونسي الذي عرف منذ القدم بطبيعته الفلاحية.

بوكس

التراث وتجاوزه

في رحلة الهطايا ذهابا وإيابا هناك نوع من التمازج الثقافي الفريد من نوعه بين مختلف القبائل التي تمثل تونس قديما، ومختلف الجغرافيات والحكايات، ما أفرز تراثا فنيا عريقا ممثلا بشكل خاص في قصائد وأغان مازال صداها يتردد إلى اليوم.

استلهم اليحياوي تلك الأغاني ليعيد تقديمها مع إقحام آلات أخرى كالغيتار الإلكتروني وتغيير التوزيع وحتى بعض الكلمات، ليعيد طرحها في ثوب جديد.

مثّل هذا التوجه أسلوبا فنيا لدى نضال اليحياوي وقد اعتمده في ألبومات وأعمال سابقة لعل أشهرها “برقو 08” التي كان وراءها بحث عميق في أغان منسية من تراث منطقة برقو شمال غرب تونس، واستمر على هذا النهج في البحث في التراث وإعادة تمثله بتصورات جديدة مبتكرة، وهو ما حاول مواصلته في عرضه الجديد، لكن الأمر مختلف هذه المرة.

العرض يبدو غير جديد وهو تكرار لما سبق، حتى الأغنيات الكثير منها من أعمال سابقة، ولو أن الفنان حاول التغيير ولو جزئيا في تشكيل الفرقة وإيقاع العرض، ولكن للمهرجانات خصوصيتها، فأن تعتمد على عزف مسجل من خلال عازف وديدجي وبعض الإيقاعات الحية على آلة الطبلة أو القصبة (الناي) فإن هذا أضعف روح العرض بشكل فادح، هذا دون الإشارة إلى الضعف الذي أصاب صوت الفنان في أواخر الحفل، ما أسقط طاقة العرض ككل وأدخله في رتابة مملة رغم إيقاع الأغاني العالي والسريع.

نضال اليحياوي فنان طموح ومرتبط بشكل كبير بجذوره، ولكن ربما عليه مراجعة توجهاته والتجديد فيها للخروج عن منجزه السابق، علاوة على الاشتغال أكثر على تنويع العمل حتى في الاستلهام من التراث نفسه، هذا الاستلهام الذي استسهله الكثير من الفنانين التونسيين حتى أن هذا التراث بات وكأنه حاجز أمام تطورهم، وهو حاجز لم يتجاوزوه.

شمال غرب تونس بتضاريسه الخاصة من الجبال والوديان والحقول، وبتاريخه العريق الذي تعاقبت عليه حضارات وقبائل منذ أكثر من أربعة آلاف عام، يمثل خزانا ثقافيا وفنيا ثريا، استفاد منه جل المبدعين وخاصة المغنين والموسيقيين.

تشويه التراث

◙ حفل مزدوج جمع المغنية والشاعرة والملحنة الموريتانية نورة منت سيمالي وعرضا موسيقيا بعنوان "مسرب الهطايا" للفنان التونسي نضال اليحياوي
حفل مزدوج جمع المغنية والشاعرة والملحنة الموريتانية نورة منت سيمالي وعرضا موسيقيا بعنوان "مسرب الهطايا" للفنان التونسي نضال اليحياوي

التعدد العرقي والديني والثقافي والامتداد الأمازيغي ورحلات التجارة والحصاد وغيرها من عادات صبغت تلك المنطقة وخلقت حالة فنية فريدة استفاد منها الموسيقيون التونسيون في استلهام أغاني التراث التي ما تزال تمثل وجدان التونسيين إلى اليوم، بحكاياتها وأصواتها الخاصة وموسيقاها التي لا تشبه غيرها وحالاتها الشجنية والاحتفالية وحالات الشكوى والغزل الجريء والقصص المسكوت عنها والتي تنقلها تلك الأغاني ويستعيدها اليوم المغنون بتحويرات فيها الفني وفيها الأخلاقي.

يدرج الكثيرون التحويرات ضمن مسمى لا أوافقه هو تهذيب التراث، ولا ندري تهذيبه من ماذا، ولو أن في الأمر لمحة أخلاقية، نظرا إلى جرأة الأغاني المستعادة، ولكنهم يضيفون إليها آلات جديدة ويعيدون التوزيع واللعب باللحن، وإن نجح بعضهم فقد فشل الكثيرون.

وربما من خلال عرض “مسرب الهطّايا” في مسرح الحمامات وقبله وبعده عروض كثيرة مازالت تتردد هنا وهناك في مختلف أنحاء تونس، أنه على الفنانين الحفر أبعد في التراث، ولكن بوعي، ومحاولة استخراج ما هو منسي وما سيتعرض للزوال مما سجلته الذاكرة الشفوية ولم يسجل بالشكل الكافي، رغم الجهود البحثية للعديد من الباحثين الموسيقيين التونسيين.

على الفنانين تغيير نظرتهم إلى التراث فهو لا يحتاج إلى “تهذيب” بقدر ما يحتاج إلى تثمين ووعي ونفض الغبار، فمثلا بحجة التهذيب هذه باتت العديد من الآلات منسية مثل آلات النفخ كالزكرة والمزود والوترية كالربابة، وتراجع استخدامها لصالح آلات أخرى غربية كالأورغ والغيتار الإلكتروني والسكسفون وغيرها.

لا إشكال في إدخال آلات جديدة ولا في إعادة التوزيع، لكن التشويه بحذف الآلات الأصلية هو ما يخلق القطيعة مع الماضي وطمس البصمات المخصوصة.

حافظ عرض “مسرب الهطّايا” على الزكرة مسجلة، لكنه لم يفلح في خلق الجو الأمثل للتعامل مع الموروث، فقدم أغاني مشوهة بعيدة عن روح التراث التونسي وهو ما جعل الجمهور لا يتفاعل بشكل أمثل مع العرض.

12