مارغو فيون مدرسة شاملة سخرت لرسم الحياة المصرية

فنانة ساهمت في إثراء الحركة التشكيلية بمصر.
الاثنين 2023/07/31
الخيال والطبيعة ملهمان لمارغو فيون

لم تكن الفنانة التشكيلية الراحلة مارغو فيون مصرية، لكن حياتها في أرض الكنانة وانبهارها بالتفاصيل هناك جعلها فنانة مصرية بامتياز تبوح لوحاتها بأسرار الحياة الشعبية والبيئة الصحراوية عبر كل مراحل تطور تجربتها الفنية، حتى أن منزلها تحول إلى متحف صغير لأعمالها، ومنها تعلم فنانون مصريون كيف ينظرون إلى تفاصيل الحياة في بلادهم من زاوية مختلفة.

من والد سويسري وأمّ نمساوية الأصل ولدت التشكيليّة مارغو فيون في 19 فبراير 1907 بمدينة القاهرة، وتوفّيت بها في 9 يونيو سنة 2003. عمرها الذي امتدّ على أكثر من تسعين سنة عاشته بين حي العبّاسية وميدان التوفيقيّة وضاحية المعادي. هذا الإطار المكاني الذي لم تغادره إلّا بصفة متقطّعة لضرورات الدراسة (سويسرا، باريس) جعلها تتعمّق في ثنايا البيئة المصريّة بمختلف تمظهراتها؛ والتي تحوّلت إلى محمل فني يسم اشتغالها التشكيلي.

التشكيليّة مارغو فيون رغم جنسيّتها السويسريّة فإنّها كانت قلباً وقالباً تنتمي إلى مصر، التي عشقتها وشغفت بتصوير ورصد الحياة الشعبية فيها: الموالد والأفراح والسبوع والفلاحين في الحقول. عاشت بمنزلها في المعادي حتى وفاتها وتُعتبر من أهمّ الفنانين الأجانب الذين عاشوا في مصر وعبّروا عن الأجواء المصريّة الخالصة.

في الثلاثينات، كانت مارغو تجعل من دقّة الخط وحدّته العنصر المميّز لعملها ولفنّها؛ إلّا أنّها ابتعدت عن هذا الأسلوب التحليلي الدقيق بعد عودتها من باريس حيث قضّت سنتين. منذ ذلك الحين، أطلقت لخطّها العنان يتعدّد ويتموّج ليمكّن الفنانة من التعبير عن جوهر الحركة والأشكال، وقد استلهمت ماري من الطبيعة أحيانا أو من أعماق خيالها أحيانا أخرى المئات من الرسومات؛ الأمر الذي مكّنها من اكتساب سرعة فائقة في التنفيذ وفعاليّة عجيبة في الأداء وأضفى على أسلوبها نوعا من السخرية. استخدمت الفنانة الألوان والزيوت بتنوّعها وتعارض قيمتها لإبراز كلّ ما في الرّسم من قوّة.

تماه مع البيئة المصرية
تماه مع البيئة المصرية

استوحت فيون الكثير من المواضيع التي تناولتها من البيئة المصرية الصحراء، الريف، أيام محلة مالك، النيل، الحصاد، الريف.

«الحياة بجانب عربة الكارو» عنوان مجموعة من الرسومات نشرت على شكل البورتو فوليو، كما حضرت عن المواضيع نفسها العديد من أعمال الحفر على شكل المونوتيبي أو الليتو غرافيك.

منذ العام 1955 شرعت ماري بتجربة التجريد منطلقة من النظرة التكعيبيّة، فجمعت في مجموعتها «تسأل» أعمالا تنتمي إلى مراحلها التصويريّة وأخرى تنبثق من هذا الاتجاه التجريد “وكأنّها قد نبعت نورا من أعماق لاوعي الفنانة” كما كتبت فيرا باجوش في كتاب خصّصته لماري وقدّمت فيه ما يقارب من ستين رسما للفنانة.

في فترة الستينات من القرن الماضي وما تلاها، تنوّعت الوسائل الفنيّة التي اشتغلت عبرها الفنّانة؛ فبعد أن كانت ترسم عبر الألوان الزيتيّة فتحت المجال للرسم بالألوان المائيّة وغيرها من التشكيلات المستحدثة باعتبار بحثها الدائم عن “الالتقاط الحيّ” حسب تعبيرها، والذي يتطوّر عبر تدوير مختلف الأشكال والوسائل الفنيّة.

الفنانة أولت الكثير من الاهتمام لفن البورتريه، شخصيات مختلفة، أغلبها من النساء من الفئات الاجتماعية المتعددة

وبالرّغم من تطوّر رهانها التشكيلي وتنوّع مآلات اشتغالها في المراحل اللاحقة إلى حدود وفاتها؛ فإنّ السمة الأبرز لنشاطها تمثّلت في تصوير الحياة الشعبيّة المصريّة، كما أنّها قامت وإلى حدود سنة 1962 بالعديد من الرحلات إلى النوبة وكانت الرحلة الأولى بصحبة الرسام الألماني مارتن سيدال، وقامت مارغو برحلات أخرى إلى النوبة بصحبة الرسامة سوزي فيتربوس وخلالها أقامت في سفينة نهرية (ذهبية)، وتم القيام برحلات مارغو التالية مع روث ريششتاين وكانت هذه الرحلة إلى النوبة هي الأخيرة التي تقوم بها فيون في الواقع، حيث اختفت النوبة إلى الأبد تحت مياه السد العالي. وقد نشرت مقتطفات من مذكرات مارغو في كتاب بعنوان «النوبة: رسومات وملاحظات وصور» من إصدار مطبعة الجامعة الأميركية في القاهرة.

من أكثر ما يلفت في أعمال فيون أنها لا تكتفي بتصوير المنظر، كأنّه لقطة تضم فعلا من الأفعال، وإنّما هناك إيحاء كبير بأن تمتد هذه اللقطة وتصبح مشهداً كاملاً؛ أي أنّها توحي بعدّة لقطات سابقة وتالية على ما أرادت تجسيده في لوحاتها، وهو أمر لا يتوفّر لدى الكثير من الفنانين. من ناحية أخرى يبدو مدى التفاعل مع البيئة، فالشخصيات لا تنفصل عن بيئتها، بمعنى أنها تبدو في اللوحات كجزء من التكوين واللون، فالجسد الإنساني الذي يتمايل مع ما يحصده، تعلوه بعض الطيور، ومدى التقارب ما بين لوني السماء والماء.

لا توجد لوحات لشخصيات فرديّة، فهذا المناخ لا يحتفي بالفرد قدر الاحتفاء بنتاج عمل المجموعة، حتى لحظات الراحة لا يوجد أحد بمفرده، حالة من التواصل الدائم والوجود مع الآخرين وبهم.

في فن البورتريه، لم تكتف فيون بتجسيد عالم القرية المصريّة وشخوصها والمناسبات الاجتماعيّة التي يعيشونها، كاحتفالات الزواج والميلاد والحصاد وما شابه، لكنها أولت الكثير من الاهتمام لفن البورتريه، شخصيات مختلفة، أغلبها من النساء من الفئات الاجتماعيّة المتعددة، يبدو ذلك في الملامح والملابس، كصديقات من فئتها الاجتماعية نفسها، أو شخصيات من جنسيات متباينة.

kk

بلغ عدد المعارض التي شاركت فيها فيون 50 معرضا – فردي، جماعية – بين سويسرا وألمانيا ومصر، وكان آخرها قبل وفاتها سنة 2002 بالجامعة الأميركيّة بالقاهرة التي وهبتها الرسّامة كلّ أعمالها تعبيرا عن عشقها اللامتناهي لمصر. وقد قامت الجامعة بإصدار سبعة كتب عن حياة مارغو فيون.

منزل الفنانة السويسرية القديرة مارغو فيون بضاحية المعادي أشبه بمتحف صغير، يضمّ مرسمها الشخصي الذي كان قبلة لجيل من الفنانين التشكيليين، من بينهم إنجي أفلاطون التي تعلّمت أصول الرسم الأكاديمي في أحضان ذلك المرسم.

كانت لفيون نشاطات متنوّعة وإسهامات في إثراء الحركة التشكيليّة المصريّة، فقد شاركت مع الفنانين المصريين محمد ناجي ومحمد لبيب ونحميا سعد في إعداد لوحات الكتاب السياحي التذكاري «مصر أرض الرحالة» الذي صدر بمناسبة معرض باريس الدولي 1937.

تمثّل مارغو فيون مدرسة شاملة لا من حيث قيمتها الفنيّة، ولكن لتماهي اشتغالها الإبداعي مع البيئة المصرية وواقعها المعيش، وهذا ما لا ينقطع بعد وفاتها، حيث بقيت درسا كبيرا كآخرين ساهموا في مختلف الفنون بتغيير نظرة الآخر للجانب التراثي والفنّي والمعيشي للمجتمع العربي عموما.

14