في ذكرى يوليو التونسية.. ما الذي تغير

الرئيس سعيد لا يمثل نفسه ولا أفكاره ولا حماس أنصاره بل يمثل الشرعية التي اكتسبها من الناس وهي نفسها التي تدفعه إلى اتخاذ القرار بالتفاوض مع صندوق النقد والمضي في الإصلاحات العاجلة.
الخميس 2023/07/27
قيس سعيد نجح في إنصاف الدولة واستعادة هيبتها

تعيش تونس على وقع جدل تقييمي لمرور عامين على الحركة “التصحيحية” التي قادها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021 بين الخصوم والداعمين. الخصوم يرون أن لا شيء قد تغير، وأن الأمور تزداد سوءا، فيما يقول الأنصار إن الصورة وردية، وإن الرجل أعاد لتونس بهاء فقدته خلال السنوات العشر الماضية.

يمكن لأيّ باحث عقلاني أن يقف في المنتصف ليرى المشهد بشكل مغاير وأكثر هدوءا وأن يقيّم المشهد قياسا على المطالب التي رفعها الناس قبل إجراءات قيس سعيد في 2021، ما تحقق منها وما لم يتحقق.

المطلب الأبرز الذي رفعه أغلب الناس وقتها هو أن البلاد قد شبعت ديمقراطية وشعارات، وأنه حان الأوان لتقليص هامش الاهتمام بالسياسي والتركيز على قضايا الناس في معاشهم، وضرورة استعادة الدولة التي باتت ضعيفة، وصار وقتها بإمكان أيّ كان أن يدوس على جناحها.

المسألة السياسية ما تزال مثار خلاف، فالرجل الذي جاء لتقليل خسائر البلاد من فوضى الديمقراطية جمع كل السلطات بين يديه، ووقف الناس في صفه وصفقوا له، وحثّوه على أن يتصرف منفردا من أجل حل مشاكلهم. لكن أين سيقود هذا المسار وما مكاسبه.

◙ النقطة المفصلية الآن هي توفير التمويلات الضرورية للانطلاق في حل مشاكل الناس ولو بشكل تدريجي، مشاكل الخبز والماء والكهرباء، التي يحاول الخصوم السياسيون العودة من بوابتها إلى الواجهة

الوجه الأول لهذه المعادلة يظهر من خلال نجاح قيس سعيد في إنصاف الدولة واستعادة هيبتها التي ضاعت بسبب وصول مجموعات وشخصيات حزبية إلى السلطة من دون معرفة بدواليب الدولة وأساليب إدارتها، حيث صارت قصصها ومشاكلها وأسرارها الاقتصادية والأمنية على الملأ.

لكن، بالمقابل، فإن الانقلاب على الفوضى في أبعادها المختلفة قاد البلاد إلى منطقة رمادية ما تزال تثير المخاوف، ويتعلق الأمر بالمحاذير التي باتت تحيط بحرية الإعلام وكأنها كانت السبب في تلك الفوضى، أو أن الاستقرار لا يتحقق إلا بغياب حرية الإعلام.

ليس هناك أسف على السياسة بصورتها القديمة، تلك السياسة التي أوقفت حال البلاد بشكل شبه كلي، وما تزال مخلفاتها إلى الآن بتضخيم السياسة وتهميش الاقتصاد والاستثمارات وتحويل رجال الأعمال والمال وأصحاب المؤسسات إلى أعداء مفترضين، وترك من هب ودب لمهاجمتهم وإجبار المئات منهم على الهروب بأموالهم واستثماراتهم إلى الخارج بمن في ذلك رجال أعمال تونسيون.

كما ابتدعت الحكومات المتتالية قصة المصالحة المالية مع عدد كبير من رجال الأعمال لتتحول إلى كابوس يطارد الرأس المال المحلي، ويجعل أصحابه أكثر ترددا في استثمار أموالهم في وقت يحتاج فيه البلد إلى استثمار كل دينار وتشجيع المستثمرين الأجانب على العودة في ظل استقرار الوضع بعد سكوت هوجة الشعارات وموجة العداء للمؤسسات العامة والخاصة ومساعي إضعاف الدولة.

كيف تصرف مسار 25 يوليو 2021 لتلافي هذه الأخطاء القاتلة في حق الدولة والاقتصاد والمستثمرين؟ وكيف تعامل مع مطالب الناس العاجلة؟

أخذ البدء بالتغيير وقتا كبيرا، حيث غرق المسار في الانتخابات والتعديلات السياسية واستعادة شرعية المؤسسات، وساد طويلا خطاب تجريم الطبقة السياسية السابقة وتحميلها المسؤولية عن الفساد والاحتكار وفراغ المالية العمومية، وتعثرت الإنجازات الملموسة.

كان يمكن الفصل بين المسارات. فمسار تفكيك المنظومة السابقة، الذي أخذ وقتا طويلا، كان يمكن معالجته بالقضاء، وبالتوازي التفرغ لمسار التغيير والاستجابة لما يطلبه الناس من تغيير لواقعهم خاصة بعد تراكم أزمات جديدة من الجائحة إلى أزمة الغذاء العالمية إلى تعقيدات ملف الهجرة غير النظامية وصولا إلى الأزمة الحادة للمالية العمومية.

◙ اتفاق الهجرة كان أولى الخطوات البراغماتية التي خطاها الرئيس سعيد من أجل جلب التمويلات العاجلة

تعرف السلطات أن الناس، الذين دعموا مسار 25 يوليو وتظاهروا لأجله وصفقوا لرئيسه طويلا اقتناعا ببراءة ذمته ونظافة سجلاته ونكاية في من قادوا البلاد إلى الفوضى، لا يمكنهم أن يصبروا كثيرا، وأنهم يريدون رؤية التغيير في حياتهم رأي العين، ولا تهمهم تعقيدات الظروف الداخلية والخارجية، فتلك مهمة الرئيس سعيد والحكومة والوزراء والمسؤولين بمختلف مراتبهم.

وفي آخر لقاء للرئيس سعيد مع الناس، الثلاثاء في ذكرى 25 يوليو، سمع شكاوى المواطنين من انقطاع الماء والكهرباء ونقص الخبز، وردًا على ذلك، أكد سعيد أن “هناك متابعة دقيقة لهذه المشاكل في كامل مناطق البلاد”.

وقال إن “الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة وارتباط التزوّد بالماء بالتيار الكهربائي تسبب في حدوث هذه المشاكل”.

وتابع مخاطبًا التونسيين “أعلم أنكم تشعرون بضيق لكن ستحل كل هذه المشاكل قريبًا”.

واضح أن الرئيس سعيد نفسه يعرف أن الأمر لم يعد يحتاج إلى تأخير، أو إعطاء أولوية لمسارات أخرى على مسار تطوير واقع الاقتصاد وتحريك دواليب الاستثمار ودعم عودة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتقوم بدورها في تشغيل الناس والمساهمة في دخول الأموال إلى ميزانية الدولة ما يمكّنها من دعم الخدمات وتوفير الضروريات.

من حق الرئيس سعيد أن يدير الأزمات الخارجية بمقاربته الخاصة التي ترفض المس من السيادة الوطنية، والتي تبحث عن حلول شاملة ضمن مقاربة إنسانية دولية، كما يأتي في خطاباته الخارجية خاصة في مؤتمر روما حول التنمية والهجرة. لكن كيف يمكن المواءمة بين هذه الأفكار العابرة للدول، والتي تؤسس للتغيير الشامل، وبين حاجة التونسيين إلى التغيير السريع.

هذه المعادلة تحتاج إلى الفصل بين قناعات قيس سعيد الكونية، وبين دوره كرئيس جمهورية من واجبه التحرك لإنقاذ اقتصاد البلاد وإعادة التوازن للوضع المعيشي للناس.

ويمكن أن نشير هنا إلى الاتفاق الأخير مع الاتحاد الأوروبي بشأن معالجة مخلفات الهجرة كخطوة أولى في مسار الفصل بين القناعات الشخصية وواجبات الرئيس. قيس سعيد كان يدافع عن حل شامل لأزمة الهجرة يقوم على تنمية دول الجنوب ومساعدتها، لكن هذا قد يحتاج إلى عقود فيما الوضع في تونس يحتاج إلى أيام للبحث له عن دعامات للحل.

◙ الانقلاب على الفوضى في أبعادها المختلفة قاد البلاد إلى منطقة رمادية ما تزال تثير المخاوف، ويتعلق الأمر بالمحاذير التي باتت تحيط بحرية الإعلام وكأنها كانت السبب في تلك الفوضى

اتفاق الهجرة كان أولى الخطوات البراغماتية التي خطاها الرئيس سعيد من أجل جلب التمويلات العاجلة، والتأسيس لشراكة شاملة ستستفيد منها قطاعات تونسية مختلفة على مدى طويل.

لو استمرت تونس في موقفها الحذر والمتردد في موضوع الهجرة، هل كانت ستأتي التمويلات العاجلة والآجلة. بالطبع لا، وهذا أمر مهم من أجل قطع الخطوة الثانية الضرورية، وهي تسريع التفاوض مع صندوق النقد الدولي للتوصل إلى اتفاق عاجل، خاصة أن الجهات الممولة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، ترهن دعمها لتونس بالاتفاق مع الصندوق.

في هذه الوضع، الرئيس سعيد لا يمثل نفسه ولا أفكاره ولا حماس أنصاره، ولكنه يمثل الشرعية التي اكتسبها من الناس، وهي نفسها التي تدفعه إلى اتخاذ القرار الضروري بالتوافق مع الصندوق والمضي في الإصلاحات العاجلة، فهي حاجة تونسية قبل أن تكون حاجة الصندوق.

النقطة المفصلية الآن هي توفير التمويلات الضرورية للانطلاق في حل مشاكل الناس ولو بشكل تدريجي، مشاكل الخبز والماء والكهرباء، التي يحاول الخصوم السياسيون العودة من بوابتها إلى الواجهة. وهذه مشاكل تحتاج إلى تمويلات وعملة صعبة لن تفيد معها المراوحة في الموقف نفسه حتى لو كان هذا الموقف مبدئيا وصائبا.

وبالتوازي مع ذلك يمكن لتونس أن تستمر في خطاب مواجهة الفساد والاحتكار والمؤامرات الداخلية على الاقتصاد، وتفكيك المنظومة القديمة ودورها في إدامة الأزمات كما يكشف عنه كلام الرئيس سعيد في كل مناسبة من خلال شعاره “لا رجوع إلى الوراء”، ولكن هذا الشعار يحتاج إلى سياسات تتقدم إلى الأمام وتراكم المكاسب التي تجعل الناس في صفه وداعمة لمساره.

9