الجسد محمل تشغيل معاصر في عوالم التشكيليّة الفلسطينية فدوى القاسم

الجسد البشري هو الثيمة الرئيسية في لوحات الفلسطينية فدوى القاسم، من خلاله تبوح بهواجسها الذاتية والإشكاليات التي ارتبطت به وجعلته يتراوح بين المقدس والمدنس، وتمارس ضده شتى أنواع العنف توضحها الفنانة عبر مسارات لونية وضوئية متباينة.
فدوى القاسم رسّامة فلسطينيّة الأصل، ولدت بالعاصمة الليبيّة طرابلس وعاشت فيها لفترة من الزمن، كان الارتحال تيمة واضحة في حياتها حيث عاشت بعد ذلك بين دول متعدّدة، منها بريطانيا، كندا، الإمارات ليستقرّ بها المقام في الفترة الأخيرة بإسبانيا.
يتطلّب ولوج عالم الفنانة التشكيليّة فدوى القاسم رصانة في اقتفاء ملامح المنجز الفنيّ وسبر أغواره، حيث تضعك الخطوات أمام طرق متعدّدة، في كلّ منها مسالك داخليّة وفرعيّة، فالفنانة تنسج خيوط حضورها عبر تيمات إبداعيّة متنوّعة. تجد نفسك أمام تجربة ثريّة ممتدّة المشاريع بين التشكيل والكتابة القصصية والترجمة. نهتمّ في هذه القراءة بالمدى الأهم في تجربتها وهو النطاق التشكيلي.
وتكمن فرادة التشكيليّة فدوى القاسم في كونها تمارس الفنّ التشكيلي في إطار مشروع جمالي وقيمي. رهان متجاوز لسلطة السائد، ومنغمس في أتون الاجتراح اللوني لاكتشاف مآلات أخرى للمعنى. فنّانة تجنح بتجربتها نحو أفق التعبير عبر تيمة المفرد، الذي يمثّل جوهر تفكّرها وقناعاتها، وتعكسه في منجزها التشكيلي كصورة لذائقتها المفردة والجمعيّة في آن. تخلق مساحات من التفكّر، تجعل من المتلقّي فاعلا في ملاسنتها عبر إنشاء علائقيّة تأمليّة ناضجة مع اللوحة.
تسعى الفنانة عبر تيمة الجسد لكشف هذا المحسوس وتشغيله. تتجاوز الأبواب المؤاربة، بما يساعد على تعرية البناء الفوقي، الأخلاقي العاداتي. تقوم بإنشاء مقابلة ما بين الظلّ والحقيقة، تكشف التناقض وحجم الفوارق ما بين المرئي واللا مرئي، في تفاعلية الأنا والآخر أو في مقابلة الجوهر والباطن. الاشتغال الجسدي في لوحات فدوى القاسم دعوة لونيّة صامتة إلى التفكير بصوت عال، وممارسة نقد ذاتي داخلي للظواهر والرؤى الجمعيّة والعادتيّة، في التفاعل مع المعطى الجسدي.
ما بين الصدمة والملامح المختلفة والمباشرتيّة، تخلق لوحات القاسم اهتزازات واحتدامات “بين ذاتية”، كأنّها دعوة صريحة إلى أنّ التغيير الجديد هو الذي تخلقه الزلازل، من أجل خلق أرخبيلات أخرى وتغيير جغرافيّة التداعي والحضور النفسي والتفاعلي.
هذا التوجّه في مشروع فدوى القاسم يخرج الفنّ التشكيلي من دائرته الضيقة – النخبوية – إلى فضاءات أرحب، تشمل مختلف الفئات الجماهيريّة، إذ إنّ الفنانة تفتح باب السؤال والتماهي مع لوحاتها بصورة غير مباشرة. ولا تقدّم طرحا مسقطا في إطار مدارس تشكيليّة بعينها أو رؤية أحادية. هي تسعى لتشغيل الذائقة، عبر المشاركة الحسيّة والنفسيّة في إدراج مضمون المنجز وضبط نوعيته وإرهاصاته. حسب الفنانة، هناك جانب عفوي تشتغل في صميمه، بعيدا عن الاختصاص بحصريته. ليس نتيجة لعدم دراستها في جامعة الفنون الجميلة، وإنّما رفضها منطق التعليب والتسميات المغلقة. هذا ما يفتح فضاء الحرية لخلق تفاعليّة حسيّة وتلقائيّة مع اللوحات، يكون خلالها المتلقّي مشاركا عبر الاختيار، في التسمية والرؤية.
وتيمة الجسد جوهريّة في أعمال فدوى القاسم، أوّلا؛ كمسبار للنحت في الذات الحقيقيّة وتشريح لاءاتها واختلاجاتها. ثانيا؛ عبر فتح علاقة جدليّة حواريّة ناضجة ومستفزّة. ثالثا؛ عبر إخراج مفهوم الجسد من بوتقة السطحي في التفكّر، إلى راهن حيوي وتعريفه – إن صحّ القول – في إطار فينومينولوجي يخرجه من الحكم المسبق، للعادات والمفاهيم الخارجة عنه.
حسب قول الفنانة “أتحدّث عن إشكاليّة الجسد. هذا الجسد الذي يراه البشر مقدّسا ومدنّسا، وهو الذي نحبّه ولكنّنا أيضا نكرهه، ربما، لأنّه يشعل غرائزنا فيذكّرنا بأنّنا لسنا أفضل من باقي كائنات هذا الكون”. ما بين التناقض والتفاعل والائتلاف والاختلاف والانطباع، تسعى الفنانة للإحاطة بهذا الجسد، ليس كوحدة متكاملة، وإنّما في نواتات متفرّدة، تخرج التصوّر من ظاهره اللّحمي إلى إيماءات نفسيّة واجتماعية وثقافيّة، تساهم في صبغ المعطى الجمالي بجوهر بحثي قيمي عن المعنى. يقوم بترسيخ التفكّر كأداة، لإعادة الاكتشاف والتبصّر في هذا الجسد الإسفنجة، القابل لجميع العوارض والآفات، والدافع لضريبة الحضور والتماهي. الفنانة تبحث في ظلال الجسد ونوازعه وليس بصورته السطحيّة المتاحة.
تهتمّ فدوى قاسم في مشروعها باستغلال الجسد لتعذيب الروح أو تهذيبها. وكيف أن تعرية الجسد تعدّ إهانة لصاحب الجسد، ومصدر قوة لمرتكب فعل التعرية. كيف أنّ التعرية بحد ذاتها عقاب، كما حصل في نهاية الحرب العالمية مع النساء اللواتي اضطررن إلى بيع الهوى من أجل البقاء، في حين أنّ أفراد المجتمع ذاته لم يحاولوا دعمهنّ، في أن لا تصل بهنّ الأوضاع إلى تلك المأساوية. وعن استخدام التعرية من قبل المحتلّ أو الأكثرية لإذلال أو قمع الآخر. وعن حالات الاغتصاب التي اتّفق العلماء أنْ لا علاقة لها بالجنس، وإنّما لفرض السلطة والقوة وكسر الآخر.
◙ الفنانة تفتح باب السؤال والتماهي مع لوحاتها. ولا تقدّم طرحا مسقطا في إطار مدارس تشكيليّة بعينها أو رؤية أحادية
كان واضحا اشتغال الفنانة على الجسد المؤنّث في أعمالها. في رصيدها مجموعات مختلفة من الأعمال التي تتعامل مع جسد المرأة “مجموعة فوضى الجسد”، “مجموعة الأنا المعذّبة وطقوس الخلاص: رؤى مغايرة”، “مجموعة نساء”. في هذه المجموعات، هناك نسق بحثي أقامته الرسّامة يتمثّل في اكتشاف فضاءات الحرية والجرأة وتكريسها كي تعبّر عن مطلق قناعاتها، حيث اشتغلت على تجسيد الأنثى العارية بصورة واثقة، لا تخشى عريها وتعرف جيداً أن الذي يحاول إهانتها من خلال تعريتها هو المذنب. حسب قول الفنانة “أردت التحدّث عن اشتهاء جسد المرأة ومن ثم تدنيس تلك التي تظهر مفاتنها. وكيف أنّ المرأة مطالبة بإخفاء مفاتنها كي لا يخطئ الرجل”.
في مجموعاتها المتعدّدة حول جسد المرأة، هناك تنويع من ناحية المضامين داخل ذات المحمل، ساعد في بلورته إبداعيّا تنويع الأساليب. وكانت جلّ المجموعات في صيغة تفاعليّة حسيّة، تبحث في أكثر من زاوية للتفاعل عبر المسارات اللونيّة والضوئيّة. كلّ ذلك في إطار اشتغال مفتوح يثرى الذائقة البصريّة للمتلقّي. وكانت مجموعة “فوضى الحواس” أكثرها تجريديّة.
في مجموعة “الأنا المعذّبة وطقوس الخلاص: رؤى مغايرة” كان الاشتغال الرمزي جليّا أكثر من حضوره في بقيّة المجموعات. اشتغلت الفنانة فيها على البسيط من المواد (حبر وماء وكولاج). أما في “مجموعة نساء” انطلقت الفنانة باستخدام ألوان أقرب إلى الطبيعة، ولكن مع تطوّر المجموعة قامت بتغيير التوجّه إلى توظيف الأزرق والأخضر والبرتقالي، سماء/فضاء/صفاء/انفتاح، طبيعة/تجدد/أمل.
في أعمال فدوى القاسم بحث عن المعنى الجسدي المتجاوز بمختلف تجلّياته، تسترشد الفنانة بخطاب مشروعيّ قائم الأوتاد في اشتغالها، بعيدا عن اللحظوي والمزاجي. لا شيء أفضل في ختام هذا المقال من قول فدوى القاسم: "كل الأجساد جميلة ويجب أن تحترم، لأنّ هذا الجسد، حيث نسكن الآن، هو كل ما نملك. هو أيضا العقل والروح. إلى أن يأتي أحد من العالم الآخر ويخبرنا بغير ذلك”.