السوري زهير دباغ يلامس الذات الحقيقية في أعماله

لوحات تحتضن وجع الفنان ومعاناته جراء الحرب.
الاثنين 2023/07/10
ألوان متأثرة بالواقع الحلبي والسوري

لم تنجح الحرب ونيرانها في إخماد نيران الإبداع المشتعلة بروح الفنان السوري زهير دباغ، بل أجّجتها وجعلته يشهر أسلحته ليمد الساحة التشكيلية السورية والعربية بالمزيد من اللوحات التي يتعامل معها معاملة المنحوتة التي تستوجب أدوات حادة لصقلها والكشف عن مكامن الجمال فيها.

"يهمني أن يرى الناس هذا الجسر الطويل من تاريخ الأعمال، خاصة أنني خسرت أعمالي في هذه الحرب" مقولة للفنان التشكيلي السوري زهير دباغ (1953) تعليقا على معرضه البانورامي الذي أقامه في بيروت عام 2017، وضم إنتاجه منذ العام 1981.

رغم أن لوحاته الممتدة لثلاثين عاما أكلتها الحرب، وأحرقتها نيرانها، ذات النيران التي أكلت حلب مدينته، ووطنه سوريا، إلا أن وتيرة انشغاله بالإبداع لم تتوقف، وعشقه للريشة والإزميل لم يهدأ، بل زاد إصراره على أن الفن أقوى من كل طواغيت الأرض، وبأن الفن باق والطواغيت إلى زوال، فازدادت همته وارتفع عنده منسوب التحدي، وبالتالي ارتفع منسوب التراكم من فائض الانفعالات، فكان لا بد له من البوح عن الداخل باستدلالاته رامية الأطراف، واسعة الأرجاء، كان لا بد له من ترجمة استغراقاته الكلية وتأملاته الجوهرية مع ماهيتها في جانبها الروحي والنفسي والمعرفي، وما تحدثه من حركات ملتصقة بالشعور وبالجواني الانفعالي، بمنطق التصورات والمكاشفات وما ينفتح أمام عوالمه من أسرار وآفاق، وفاكهة التجريب هي التي يسعى دباغ لقطفها.

◙ الحرب زادت دباغ ولعا بالمكان
◙ الحرب زادت دباغ ولعا بالمكان

وليس مهماً إن كان الطريق إليها بعيداً أم قريبا، سالكاً أم غير سالك، فالفنان يبقى في جريه حتى يدخل حقلها تماما، وتبدأ عملية القطف أولا، والأكل ثانيا، فكما كان يسرق الفحم من منقل جدته ويصعد على الجدران، ويرسم أمام الأولاد عصفوراً أو جملا، وينتشي فرحاً بإنجازاته، فهو يسرق فواكه جديدة من حقول التجريب، ولسنوات طويلة وهو يمارس هذه العملية بفطرته علّه يعثر على حلمه الذي جاءت الحرب لاحقاً لتخطف سلته من فواكهها وتحرق حلمه وتتم بعثرة رمادها في الفلوات.

لكن السائق لم يهرب بعربته، وأقصد هنا الفنان زهير دباغ حين حلّ الدمار بمرسمه، بل ازداد ولعا بالمكان، وبالطين، والألوان، فكان لا بد أن تكون سلته الجديدة مليئة بكل ما تشتهيه نفسه من لوحات ومنحوتات. لم يكن يغيب عن القطف مطلقا، يرتدي حواسه ويمضي كي يكسر الصمت الذي صعد فيه لبرهة، ثم تلاشى ولكن إلى أين؟ إلى صخب يثقل كاهل أشكاله، كاهل مجسماته التي بقيت تركض في مهجعه الأخير، وكاهل لوحاته التي استمرت في الأنين.

دباغ يحضن وجعه وحروفه، عنوانه ومسالكه، ناظراً إلى مدركات الحواس، وإلى ترتيبات محاورها وما تفرع عنها. فهو يعي أن مقاربة الذات لمكوناتها المتعددة تبدأ من دوائرها الداخلية، أو من ابتهالاتها إلى التناسق والتناسب لمنحى معالمها – حسب مقتضى الحال – فثمة مقاصد بحثية يمكن الوصول إليها، وإن كانت هناك مكابدات قد تعترضها هنا أو هناك بالاعتماد على إشارات غير مؤطرة، تتخطى مساعيها إلى مسعاها وكأنها تهرب إلى اللانهاية.

دباغ رغم أنه كان يحب أن يعرف كنحات لا كملّون، ولكن ظروف المأساة جعلت الكفة تتأرجح إلى جهة اللون. وبعد انقطاع لم يكن بالقصير يعود دباغ إلى اللوحة والألوان، مبتعداً قليلاً عن الكتلة والإزميل، وإن كانت علاقته مع اللوحة هي علاقة نحات، فهو يتعامل مع مساحاته البيضاء بالسكين وكأنه ينحت منحوتة ما من طين أو أي خامة أخرى. وهو ومع السنين المُرّة أدرك أن النحت يحتاج إلى مكان وأدوات كلها تحتاج إلى مساحة تشتغل عليها، فأين له هذا المكان وكل الأمكنة باتت خرابا وفي خبر كان، ربما هذا ما جعله يميل إلى القماش الأبيض والألوان وإن بلغة النحات، بلغة تبحث عن تفاصيل اللحظة، بزخمها وأسرارها وقدرها، حتى يلامس الذات الحقيقية في اللوحة، والذي قد يستعيد بذلك الوجه الآخر للأشياء، الوجه المشبع بفصول كانت تضفي نوعا من التوازن للمعبد الذي كان يرتل فيه حياته.

◙ علاقة دباغ باللوحة هي علاقة نحات، فهو يتعامل مع مساحاته البيضاء بالسكين وكأنه ينحت منحوتة ما من طين أو أي خامة أخرى

دباغ لا يعترف بوجود حدود بين أنماطه المتنوعة التي يشتغل عليها، بين المنحوتة واللوحة، فوفق مقتضيات سياقهما يتحكم على نحو ضمني وصريح بتقاطعاتهما، وهذا يسهم في رفع غنى وتنوع تجربته. ويمكن القول إن هذا الغنى وهذا التنوع يجعله، أقصد دباغ، يسلك طرق إنتاج جديدة، طرقا تجعله قادرا على دفع فعل التأويل نحو مسارات غير محددة، وقادرة بدورها على إنتاج ممكنات نصوصه الدلالية، فكل نص وبعد التداخل بين مستوياته يزود بطاقات من الفعل المضمر، وحسب موقعه من إنتاج الدلالات الإيحائية تحدد طبيعة تلك الإيماءات التي ستتوالد على امتدادات عملية الخلق.

وليس غريبا هنا أن ينفلت من دباغ نسق في حدوده المرئية، فيستهويه هنا كل ما هو مستعص على الضبط، فيصحو جيدا حتى ينتشي تماما ليقدم على فك رموز تلك الطاقة المبهمة وكشف أسرارها، ورصد جوهرها، فيطلق العنان لها حتى تتسامى القيم والمواقف معا، وحتى تتبلور ثيماتها الرئيسة التي عليها تحال الكثير من الوضعيات الممكنة، المتعلقة ببداية ولانهاية مسارات حداثية تحمل رهانها في قدرتها على التحول وعلى التجدد، وبالتالي على خلق متلقيها القادر على التفاعل معها وإن كان ذلك يحتاج إلى تراكمات معرفية بصرية كفيلة بالشروع في مغامرة التفاعل والبحث.

◙ لوحات أنجزت بتقنيات النحت
◙ لوحات أنجزت بتقنيات النحت

15