توتر في البلقان؟ فرصة أردوغان لتوسيع نفوذه

يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى زيادة نفوذ تركيا في منطقة البلقان بعد أن ضمن خمس سنوات أخرى على كرسي الحكم. وكانت البلقان جزءا من الإمبراطورية العثمانية لعدة قرون.
ويمثل تصاعد حدة التوترات في شمال كوسوفو فرصة لأردوغان، وعلى الرغم من أن جنوب شرق أوروبا لا يزال خاضعا لتأثير التيار الجيوسياسي الأميركي فإنه من المرجح أن تهدف أنقرة إلى الشروع في لعب دور الوسيط في النزاعات بين بلغراد وبريشتينا.
وتصاعدت حدة التوتر في كوسوفو بالقرب من الحدود الصربية، حيث يشكل الصرب غالبية السكان، بعد أن استولت القوات الخاصة لشرطة كوسوفو التي يهيمن عليها الألبان في 26 مايو الماضي على أربعة مبان للبلدية في المنطقة، بهدف مساعدة رؤساء البلديات المنتخبين حديثا على تولي مناصبهم، وقد قاطع السكان الصرب بأغلبية ساحقة الانتخابات في 23 أبريل الماضي. ولئن كانت الأصوات حرة ونزيهة، فإن نتائج التصويت لم تعكس رغبات الأغلبية في المنطقة.
مما لا شك فيه أن الوجود العسكري التركي المتزايد في كوسوفو سيساعد أنقرة على تعزيز مواقعها في المنطقة، خاصة الآن بعد أن انشغل الغرب بالحرب في أوكرانيا
وأثارت تصرفات القوات الخاصة لشرطة كوسوفو غضب الولايات المتحدة، وعلى الرغم من كون الولايات المتحدة الداعم الرئيسي لكوسوفو طردت بريشتينا من التدريبات العسكرية التي تقودها في أوروبا. وبدلا من ذلك، أجرت القوات الأميركية تدريبات عسكرية مشتركة مع الجيش الصربي بالقرب من بلدة بويانوفاتش، غير البعيدة عن كوسوفو.
وإدراكا منه أنه لا يستطيع الاعتماد على الدعم الغربي بصورة كاملة، فقد يبدأ رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي في البحث عن شركاء بدلاء، على أمل تحسين مواقف بريشتينا على الساحة الدولية. فهل يمكن أن تكون تركيا واحدة من هؤلاء الشركاء؟
نشرت أنقرة نحو 500 جندي من قوات الكوماندوز التركية في شمال كوسوفو استجابة لطلب حلف شمال الأطلسي إرسال قوات للمساعدة في إخماد الاضطرابات. وقد بدأوا بالفعل في القيام بدوريات في البلديات التي يهيمن عليها الصرب في الشمال، والأهم من ذلك أنه من المتوقع أن تتولى تركيا قريبا قيادة مهمة حلف شمال الأطلسي التي تهيمن عليها الولايات المتحدة في كوسوفو.
وعلى الرغم من أن أنقرة ينظر إليها من المنظور التاريخي على أنها حليف لمسلمي البلقان، بمن فيهم الألبان، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن أردوغان سيقف إلى جانب كورتي ضد الأغلبية الصربية في شمال كوسوفو. ومع ذلك فإن اجتماع رئيس وزراء كوسوفو الأخير مع السفير التركي في بريشتينا يمثل بلا شك محاولة لكسب دعم أنقرة في خضم المواجهة بينه وبين الولايات المتحدة.
وليس سرا أن تركيا تهدف إلى أن تصبح واحدة من أكثر الجهات الفاعلة الأجنبية نفوذا في البلقان. وهي تلعب بالفعل دورا مهما في “صنع السلام” في مختلف الحروب، بدءا من سوريا ومرورا بليبيا ووصولا إلى أوكرانيا، حيث أدت وساطة أنقرة إلى توقيع اتفاق الحبوب بين موسكو وكييف. وبما أن الحوار الذي أداره الاتحاد الأوروبي بين بلغراد وبريشتينا لم يؤد إلى تخفيف حدة التوتر في شمال كوسوفو، سيرى أردوغان أن أمام أنقرة فرصة للتوسط بين المتنازعين.
وعلى الرغم من أن تركيا تدعم دون تحفظ استقلال كوسوفو من جانب واحد عن صربيا والمعلن عنه في عام 2008، يبدو أن أردوغان يختار نهجا بنّاء ومتوازنا، مما يعني أيضا احترام المصالح الصربية في المنطقة. وترى بلغراد -وكذلك أعضاء الاتحاد الأوروبي، إسبانيا واليونان ورومانيا وسلوفاكيا وقبرص- كوسوفو كجزء لا يتجزأ من صربيا، وهذا هو السبب في أن تركيا تحاول تحقيق التوازن بين علاقاتها الاقتصادية القوية مع الدولة الواقعة في جنوب شرق أوروبا وعلاقاتها التاريخية والثقافية مع ألبان كوسوفو.
ليس سرا أن تركيا تهدف إلى أن تصبح واحدة من أكثر الجهات الفاعلة الأجنبية نفوذا في البلقان. وهي تلعب بالفعل دورا مهما في "صنع السلام" في مختلف الحروب، بدءا من سوريا ومرورا بليبيا ووصولا إلى أوكرانيا
وأثار تصريح أردوغان عندما كان رئيسا للوزراء في عام 2013، بأن “كوسوفو هي تركيا، وتركيا هي كوسوفو”، انتقادات حادة في بلغراد، وبعد عشر سنوات يرى الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش أن أردوغان يمكنه “المساعدة في الحفاظ على الاستقرار في شمال كوسوفو” ولعب دور “الصديق الحقيقي” لصربيا. والواقع أنه على الرغم من اختلاف وجهات النظر بشأن وضع كوسوفو، تحسنت العلاقات بين بلغراد وأنقرة تحسنا كبيرا على مدى العقد الماضي.
ويمكن للمواطنين الصرب السفر إلى تركيا دون جوازات سفر، بينما تواصل أنقرة تعزيز وجودها الاقتصادي في الدولة البلقانية، وتعمل حوالي 3300 شركة تركية في صربيا، 21 منها في مجال التصنيع. وعلاوة على ذلك بلغ إجمالي التبادل التجاري بين صربيا وتركيا ما يقرب من 2.5 مليار يورو (2.7 مليار دولار) في عام 2022، في حين كان حجم التجارة بين تركيا وكوسوفو أقل بكثير، حيث بلغ 696 مليون دولار.
ومن المتوقع أيضا أن تزيد بلغراد وأنقرة التعاون العسكري، على الرغم من أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وصربيا لا تزال دولة محايدة عسكريا، خاصة بعد أن وعد أردوغان بتزويد الدولة البلقانية غير الساحلية بطائرات دون طيار من طراز بيرقدار. ومع ذلك تلقت قوات أمن كوسوفو بالفعل خمس طائرات دون طيار تركية الصنع، مما يعني أن تركيا تهدف على الأرجح إلى الاستفادة من بيع الأسلحة لكلا الجانبين.
ومما لا شك فيه أن الوجود العسكري التركي المتزايد في كوسوفو سيساعد أنقرة على تعزيز مواقعها في المنطقة، خاصة الآن بعد أن انشغل الغرب بالحرب في أوكرانيا، وفي الوقت ذاته سيساعد أردوغان على تصوير نفسه كشريك صاعد ومحايد لكل من بلغراد وبريشتينا.
لكن بالنظر إلى أن الولايات المتحدة لا تزال القوة الأجنبية الرئيسية العاملة في البلقان -والفضل يعود إلى معسكر بوندستيل الذي يتخذ من كوسوفو مقرا له، وهي أكبر وأغلى قاعدة عسكرية أجنبية بنتها الولايات المتحدة في أوروبا منذ حرب فيتنام- فمن غير المرجح أن تكون تركيا في وضع يسمح لها بتكوين سياسة خارجية مستقلة تماما في المنطقة، وبدلا من ذلك من شبه المؤكد أنه سيتعين على أنقرة تنسيق معظم خطواتها مع واشنطن تنسيقا مدروسا.