الإمارات في مشهد سانت بطرسبرغ

المشهد الذي جمع الشيخ محمد بن زايد وبوتين والحديث الذي سمعناه عن الشراكة، وحجم التراكم في العلاقة بين البلدين هي أولى خطوات استعادة السلام في عالم قلق ومليء بالعداوات.
الاثنين 2023/06/26
لقاء استثنائي

كنت أمام شاشة التلفزيون عندما لفتت نظري لقطة تجمع رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تصورت للحظة أنها لقطة أرشيفية. لكن شريط التعريف تحت اللقطة كان يقول “عاجل” ويشير إلى لقاء يتم نقله على الهواء من سانت بطرسبرغ. أدركت أن الإمارات لم تكتف بالمشاركة بمنتدى سانت بطرسبرغ، بل قرر الشيخ محمد بن زايد أن يذهب شخصيا وأن يلتقي بوتين. هذا لقاء استثنائي في الوقت الذي تبدو فيه روسيا في عزلة متزايدة بحكم تداعيات الحرب في أوكرانيا.

العالم يتبنى مواقف متباينة من روسيا وبوتين. وإن كان التعميم لا يفيد، لكن من الوارد تصنيف المواقف إلى ثلاثة.

الموقف الغربي من بوتين متشدد بالحد الأدنى، بل ومتطرف. القطيعة الغربية مع روسيا بدأت منذ سنوات. الولايات المتحدة اتخذت قرارا مبكرا بأن تتبنى سياسات على الضد من روسيا. الحرب في أوكرانيا هي جزء من نتائج هذه السياسات. غذت هذه السياسات البارانويا الروسية، سواء بالإصرار على التحرك بالناتو قريبا إلى الحدود المباشرة لروسيا من دون ترك دول عازلة مثل أوكرانيا وبيلاروسيا، أو من خلال تسميم العلاقة الاقتصادية الروسية – الألمانية بفرض عقوبات على كل من له علاقة بمشروع الغاز نورد ستريم 2. ثمة ورقتان بحثيتان نشرهما معهد راند عام 2019 تتحدثان بالحرف عن جر روسيا إلى حرب قريبة تستنزفها. معهد راند من المؤسسات الفكرية الكبرى في الولايات المتحدة ويعد الأكثر تأثيرا في صنع القرار الأميركي.

في يوم قريب، سيجد العالم أنه بحاجة إلى شخصية قيادية يطمئن لها ويطمئن لدوافعها، تساعد روسيا في الخروج من مأزق الحرب في أوكرانيا وأن تتحدث لبوتين ليس بمنطق الوسيط فقط، بل الشريك

الحرب في أوكرانيا أنهت كل التفاهمات الروسية – الأوروبية. أوروبا الآن يد واحدة مع الولايات المتحدة في مواجهة روسيا، مهما حاول زعماء أوروبيون أن يخففوا من غلواء المواقف ومن الإصرار الأميركي على التصعيد مع موسكو.

الموقف “الشرقي”، إذا جاز التوصيف، هو موقف ضد الولايات المتحدة أكثر منه مع روسيا. الحرب الباردة الجديدة أساسها مواجهة الغرب للصين. العداء الأميركي المتزايد للصين، والتسابق من قبل المسؤولين الأميركيين على تصنيفها كخصم إستراتيجي، بلغا مستويات تتجاوز المعقول. ومثلما استغلت واشنطن خط الغاز الروسي لأوروبا كنقطة انطلاق في تحويل التنافس إلى عداء، كان الموقف من شركة هواوي وتقنية 5 جي للهواتف والاتصالات، الخط الذي شرعت منه واشنطن في حشد حلفائها الغربيين ضد بكين. محاولات التهدئة الحالية، مثل زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لبكين، لن تقدم أو تؤخر في مسار العلاقة. العداء هو الأساس والتنسيق صار الاستثناء. واشنطن لا تتردد في إرسال حاملة طائرات إلى فيتنام، عدوها السابق الذي تسبب في هزيمتها المريرة في شرق آسيا، فقط لتغضب الصين.

لا تزال بعض الدول الغربية مترددة في مسايرة الرغبة الأميركية في إشعال الحرب الباردة الجديدة. الصين ورشة العالم ومن أهم مصادر تمويله، بما فيه تمويل الولايات المتحدة نفسها من خلال شراء الصين لسندات الخزينة الأميركية بما يزيد عن تريليون دولار. الصين تقف مع نفسها وليس مع روسيا.

في حافات الموقف الشرقي هناك دول مهمة تحاول الولايات المتحدة كسبها لجانبها ودفعها لاتخاذ مواقف معادية لروسيا. يكفي مشاهدة السجاد الأحمر الذي فرش لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في زيارته الأخيرة لواشنطن. لكن لا يزال من المبكر الحكم إن كانت دولة مثل الهند يمكن أن تكون ساذجة إلى درجة قبول التفسير الأميركي لعالم ما بعد الحرب في أوكرانيا.

الموقف الثالث هو موقف المتفرجين. الصراع الجاري من وجهة نظر كثيرين، إما فرصة لتحقيق موارد مالية إضافية من مبيعات النفط والغاز، أو أنه خطر إلى درجة تمنع من المجازفة بالاقتراب منه. المستفيدون ماليا من الحرب يسترضون الغرب وروسيا على حد سواء: نضخ المزيد من النفط والغاز لمنع الابتزاز الروسي للغرب وإيقاف عجلة الحياة فيه؛ ولكننا نواصل التنسيق مع موسكو للإبقاء على أسعار عالية للطاقة بما يكفي لمنع الانهيار المالي الروسي نتيجة نقص الموارد. الاسترضاء وصل إلى مستويات مربكة يصعب معها تفسير التباعد والتقارب سياسيا مع الولايات المتحدة، أو قبول أن تضخ روسيا كميات كبيرة من النفط بأسعار مخفضة من دون احتجاج مباشر من دول أوبك+، وخصوصا السعودية. المتفرجون المتضررون، مثل مصر، لا يملكون إستراتيجية ثابتة. فمرة يشتكون من صعود أسعار الطاقة والغذاء بسبب الحرب، ومرة نسمع عن خطط تزويدهم روسيا بعتاد حربي لن يفعل أكثر من إطالة زمن الحرب.

الموقف الغربي من بوتين متشدد بالحد الأدنى، بل ومتطرف. القطيعة الغربية مع روسيا بدأت منذ سنوات. الولايات المتحدة اتخذت قرارا مبكرا بأن تتبنى سياسات على الضد من روسيا

روسيا أهم من أن تترك بعزلة أو من دون فهم ما يجري فيها. حتى من قبل تمرد قوات فاغنر ومشروعها للانقلاب على القيادة العسكرية (أو الانقلاب على بوتين)، كانت مسيرة الحرب المتعثرة تحمل ما يكفي من علامات الخطر. هذا بلد من الممكن أن يحدد مصير السلام في العالم. الفوضى السياسية في روسيا خطرة جدا، ولا يمكن تخيل العالم مستقرا إذا تمددت الفوضى في روسيا إلى خارج حدودها. الأمر يمس كل شيء، من الأسلحة النووية في أيد مغامرة، إلى اتفاقيات الطاقة والحبوب.

بعيدا عن موقف العداء لروسيا أو العداء لأميركا أو التفرج، كان موقف الشيخ محمد بن زايد متميزا. دولة الإمارات ليست الغرب الذي يريد تصفية حساباته مع بوتين، ولا الصين التي تتوجس من كل لمحة سياسية غربية تجر المزيد من العداء، ولا من فئة المتفرجين المستفيدين أو المتضررين. ومثلما كانت الإمارات مبادرة في ضبط الانفلات الإقليمي الذي صاحب ما يسمى بالربيع العربي، واتخاذها موقفا فاعلا في مواجهة أشكال الإسلام السياسي المختلفة ممن تقدم نفسها كقوى ديمقراطية أو متشددة، فإنها تبادر بفاعلية كي تكون قريبة من الحدث الروسي ومن فهم طريقة تفكير القادة الروس، حتى وإن كلفها هذا ملامة الغرب. الموقف المستقل في السياسة الذي يميز الإمارات، ليس الغرض منه تصفية الحساب مع الولايات المتحدة التي تزيد من سلبيتها في التعامل مع المنطقة، أو مجاراة لصعود قوى جديدة مثل الصين والهند، أو الاختلاف عن مواقف المتفرجين، بل هو شعور عال بالمسؤولية.

في يوم قريب، سيجد العالم أنه بحاجة إلى شخصية قيادية يطمئن لها ويطمئن لدوافعها، تساعد روسيا في الخروج من مأزق الحرب في أوكرانيا وأن تتحدث لبوتين ليس بمنطق الوسيط فقط، بل الشريك الذي يحرص على مصالح شريكه عندما يرى أنه قد ذهب بعيدا في مراهناته السياسية. المشهد الذي جمع الشيخ محمد بن زايد وبوتين في سانت بطرسبرغ والحديث الذي سمعناه عن الشراكة، وحجم التراكم في العلاقة بين البلدين، هي أولى خطوات استعادة السلام في عالم قلق ومليء بالعداوات.

9