السعودية في عالم لا يحتمل الانكماش

الضغوط الغربية والفرنسية على وجه الخصوص فشلت في جر السعودية ثانية إلى لبنان. التعامل السعودي مع لبنان مر بمراحل متعددة خرجت منها الرياض خاسرة في كل مرة خسارات سياسية ومعنوية.
الاثنين 2023/06/19
صفقات اقتصادية مشتركة محور الزيارة

لمن لديه أي شك في أن السعودية تتبنى سياسة “السعودية أولا”، نقدم له زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لفرنسا كدليل قاطع لا يحتمل الجدل. استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولي العهد السعودي وهو يحمل ثلاثة ملفات: مشاريع الشركات الفرنسية الكبرى في السعودية؛ والحرب في أوكرانيا؛ والوضع السياسي في لبنان. كانت النتيجة كلاما دبلوماسيا بليغا عن أوكرانيا ولبنان، ولكن من دون أي موقف ملموس. الصفقات الاقتصادية المشتركة ظلت محور الزيارة.

قد لا يكون ثمة تزامن بين زيارة الأمير محمد بن سلمان لباريس وتوجه وزير الخارجية السعودي إلى طهران لفتح السفارة وإعادة العلاقات مع إيران. زيارة بمستوى زيارة ولي العهد لفرنسا عادةً ما يستغرق الاستعداد لها وقتا طويلا. لكن الزيارتين تقعان في نفس السياق: الاهتمام بالمصالح السعودية بوجهيها الإيجابي، أي ماذا يمكن أن تربح السعودية من علاقة مع دولة غربية كبرى مثل فرنسا، أو نزع السلبي، أي ماذا يمكن أن تستفيد السعودية من خفض التوتر مع إيران.

◙ العلاقات الاقتصادية بين السعودية وفرنسا فيها الكثير من السياسة. مع تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وتزايد الحضور الصيني والتنسيق مع روسيا، تحتاج السعودية أن تقول إنها لا تقاطع الغرب

تريد السعودية أن تنأى بنفسها عن الحرب في أوكرانيا. هذا لا يعني أنها لا تهتم بها. الرياض لا شك تراقب عن كثب ما يحدث على الجبهة العسكرية هناك، وتراقب ردود فعل روسيا والغرب. للروس مواقف كثيرة ومتعددة تهم السعوديين. بعض هذه المواقف يمس السعودية بشكل كبير خصوصا ما يتعلق منها بأسعار الطاقة في العالم، لاسيّما وأن الحرب انعكست بشكل إيجابي على الدخل السعودي من النفط. في جانب من مواقف روسيا، تلاحظ السعودية أن الأسعار المخفضة للنفط الروسي تؤثر على أسعار أوبك+.إلى حدّ الآن، لا تريد الرياض أن تدخل في مواجهة سعرية مفتوحة مع موسكو. الضغوط الأميركية والغربية على السعودية بخصوص إمدادات الطاقة وأسعارها صارت من ورائنا، بعد تماسك جبهة أوبك+. لا مصلحة في شق صف التحالف النفطي.

فشلت كل الضغوط الغربية، والفرنسية على وجه الخصوص، في جر السعودية ثانية إلى لبنان. التعامل السعودي مع لبنان مر بمراحل متعددة، خرجت منها الرياض خاسرة في كل مرة، خسارات سياسية ومعنوية. ليست بعيدة عن الذاكرة “مهمة الإنقاذ” التي قام بها ماكرون لإخراج رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري من “الاستضافة” السعودية. بنهاية مهمة الإنقاذ انتهت العلاقة مع الحريري وأصبحت العلاقة السعودية مع سنة لبنان في سياق التاريخ. لم تفكر الرياض في الاستثمار في شخصية سنية جديدة، وتركت الحريرية السياسية مثل البيت الوقف. كل الوعود التي قطعها السياسيون اللبنانيون على أنفسهم لاستعادة التوازن لصالح النفوذ السعودي في مواجهة النفوذ الإيراني لم تتحول إلى فعل ملموس. هناك هامش شيعي بلا تأثير يتقرب من السعودية، وقوة مارونية أصغر من أن تحدث الفارق، واعتكاف درزي. لا تقارن قوة الميّالين إلى السعودية مع قوة حزب الله في لبنان.

الفرنسيون يركزون على الشكليات. يريدون رئيسا منتخبا وحكومة مكلفة وبرلمانا. بالتركيبة الراهنة، لا يمكن أن تنتج التحالفات السياسية في لبنان أفضل مما هو موجود. هيمنة سلاح حزب الله، واختراقاته للطوائف المختلفة، لم تتركا الكثير من الفرص لغيره. لا يهم حزب الله أو إيران أن ينهار لبنان، طالما صمد حزب الله حاكما متنفذا. ولا يزيد التقارب السعودي السوري الأمر إلا تعقيدا. لربما ندمت الرياض لضغطها على بشار الأسد كي يسحب قواته من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، لأن الانسحاب ترك كل الأوراق بيد إيران، بعد أن كان بوسع الدول العربية، والسعودية على وجه الخصوص، التعامل مع السوريين فيما لا يريدون التعامل فيه مع الإيرانيين في لبنان. لا معنى لمجاراة الشكليات الفرنسية طالما لا تغير أي شيء على الأرض، بل تأتي بتتمة لحكم الرئيس اللبناني السابق ميشال عون، الذي أسس لحصة إيران في الرئاسة. لبنان الحالي لا يستحق، من وجهة النظر السعودية، أكثر من تصريحات بين حين وآخر على مستوى سفيرها في بيروت.

◙ السعودية تريد أن تنأى بنفسها عن الحرب في أوكرانيا. هذا لا يعني أنها لا تهتم بها. الرياض لا شك تراقب عن كثب ما يحدث على الجبهة العسكرية هناك، وتراقب ردود فعل روسيا والغرب

عودة العلاقات لا تعني تفاهمات في توزيع مناطق النفوذ بين السعودية وإيران. مبدأ “السعودية أولا” يعني كف الأذى الإيراني المباشر عن السعودية، مع تصريحات بلا أثر على الأرض عن عدم التدخل وسيادة الدول. لبنان، إلى أجل غير مسمى، يدخل في نطاق البيانات مثل ذلك الذي أعقب لقاء ماكرون بالأمير محمد بن سلمان.

العلاقات الاقتصادية بين السعودية وفرنسا فيها الكثير من السياسة. مع تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وتزايد الحضور الصيني والتنسيق مع روسيا، تحتاج السعودية أن تقول إنها لا تقاطع الغرب. شركات النفط الفرنسية الكبرى لا توفر فقط التقنيات الغربية المتفوقة على تلك الصينية أو الروسية، بل تقدم ضمانات غربية لاستمرار التعامل السياسي بأبواب وقلوب مفتوحة. فرنسا بوابة أوروبا، خصوصا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانكماش دورها السياسي والاقتصادي. وساعدت الحرب في أوكرانيا على انكشاف نقاط الضعف السياسية والاقتصادية الألمانية. فرنسا دولة كبرى تستطيع أن تقدم الكثير لبلد يريد أن يأخذ أكثر مما يعطي: “السعودية أولا”.

يبقى الكثير من التساؤلات. هل مسموح في عالم اليوم بمثل هذه الانتقائية؟ التجارب السعودية في العلاقات مع الآخرين قادت في بعض منها إلى الكثير من المشاكل والأزمات. يبدو خيار تقديم الأولويات السعودية واردا. وترى الرياض أن وفرة الخيارات في العالم الآن لا تجعلها ملزمة مع أحد بشيء، خصوصا وأن لديها الكثير من الأسلحة، من مال ونفط ونفوذ ديني. لكن دولا أخرى، إقليمية أو بعيدة، تمتلك نفس المؤهلات أو مؤهلات شبيهة أو أفضل، اختارت أن تبقي على حركتها السياسية وحضورها الاقتصادي ويدها الممدودة لأنها تدرك أن الانتقائية هي مدخل للعزلة وليس للتفرد. ومثلما حملت اللقاءات في باريس رسائل، فإن رسائل أخرى حملتها لقاءات منتدى سانت بطرسبرغ. هذا عالم لا يحتمل الانكماش حول ذاتية مبالغ فيها، مهما كانت دوافعها.

9