السوري طلال أبودان يصيغ تشكيلاته محاولا فهم اللاشعور

يثير الوجه الإنساني، بكل خصوصياته وبما يعبر عنه من مشاعر وذكريات وملامح عن الماضي والحاضر، إعجاب الفنان السوري طلال أبودان الذي طوع ريشته وألوانه لتتبعه وإعادة تشكيله بما يخلق داخل فضاء لوحاته شخوصه الخاصة التي تعبر عن العمليات اللاشعورية المشتركة والمختلفة بين البشر.
الفنان السوري طلال أبودان (حلب 1953) ابن مرحلة كان الصمت من أكثر ثمارها، كانت تزرع في الكثير من مفاصل الحياة، والحديث فيها أو كسر جزء من حاجز الصمت هذا قد يذهب بك إلى الحيطان المغلقة.
فعلها أبودان ونال نصيبه منها والذي تجاوز العشر سنوات، فهذه الجرأة في الفعل، والرغبة في حياة كريمة جعلته يغار على الإنسان لأنه غاية هذه الحياة، فلماذا كل هذا التكبيل لشهيقه وزفيره، لكنه لم يسع للانتقام بل سعى إلى القبض على كل حركاته السريعة منها والبطيئة، وفتح نوافذه المغلقة دون عنف ودون غضب، ورفع نظراته للشمس، وبفضل رؤيته وهو في حالة غير يائسة علها تذيب الجليد المقيم فيه منذ عقود.
هذا الامتلاك لهذا الكم من الطاقة ومن الحب للهواء دفع الفنان السوري إلى القول “لا” في وجه تلك الجدران وهراواتها، دفعه إلى الإمساك بريشه وأزميله علّه يجمل الحديقة التي طالما حلم بها وبورودها مختلفة الألوان والعطور، وحملها معه ونثرها في كل دروب الحياة، وهو الفنان العاشق للون وعطره فهو عبّادها.
يهتم طلال أبودان بدراسة الجوانب المختلفة من الوجه الإنساني، الوجه بوصفه مرآة الإنسان وروحه، مرآة دواخله وما تشتمله من عمليات لاشعورية، ومن تكوينات الأساس فيها متخيل، ويبدأ بتحديدات بسيطة لبعض المفاهيم الأساسية المناسبة لها، ثم يستعرض تقديراته البحثية الملتقطة من الحياة اليومية وأوجاعها.
بحرفية الالتصاق بتلك الأوجاع، وبحساسية عالية لخصائصها ينجز الفنان التشكيلي أبودان عمله ويرتقي بتشكيلاته التي تحمل كفاءاته العالية نحو استغراقات خاصة بوسائط خاصة لا تنزاح نحو الأشكال المألوفة، بل نحو أشكال تحمل اشتقاقاتها الأسطورية وما تلخصه من قصص وحبكاتها دون ميل إلى الخلط بين تمكنه التقني ومهاراته التعبيرية، فهو يتقن من المعايير الفنية ما تحمله إلى إمكانية الارتقاء بلونه المعبر عن كائناته الحية، إن كانت بعين واحدة أو بعينين، ففي الحالتين الحياة فيها مطفأة إلى إشعار آخر.
وإن كان أبودان يبذل الكثير لإرسال الروح فيها وإحيائها من جديد، وهو على دراية تامة من الإدراك بأن حالات الروح والانفعالات والمعاني لا تستطيع تكوين موضوعاتها الخاصة ما لم تسور بمدى من المعاني المتزايدة والقابلة للتأويل، وهذه بمنزلة الارتقاء الجمالي لها ودفعها إلى مرحلة النضج المثمر، إلى مرحلة إثارة الأسئلة أو التساؤلات حول القيم الإنسانية عموما وليس حول الجماليات وحدها.
في ضوء ذلك فإن استدلالات الفنان السوري المختلفة، بطرائقها واختياراتها وتساؤلاتها ما هي إلا استدلالات لعملية مركبة تتراوح بين الوصف والتأويل والحكم، والتي تتحرك بدورها على نحو تلقائي بين العمل الفني والمتلقي بكل أطرها المعرفية المتنوعة والمختلفة.
هنا قد تظهر بعض العلامات الدالة على الدهشة والالتفات نحو الحركات التي تستجيب على نحو نشط وإيجابي لها وبانفعالية أقل، لكن بلحن مرتفع فيه من الجهارة ما يجعل مقامه الصغير أو الكبير في ألفة مع تكراراتها اللحنية بشيء من التفضيل في حجم الصوت وشكله أو في جهارته وصمته، مع ظهور عمليات شكلية أقرب إلى التعبيرية من تجريدياتها، بل قد يأخذ من التزاوج بينهما كل مقطوعاته اللونية في محاولة منه لإثبات انتمائها إلى أسلوبه، إلى أسلوب مصنف له وإن كان مغموسا في الوجداني والتداعي الحر في جانب منه.
هو وبجهود خاصة وباهتمامات خاصة بحكايا درامية يصيغ تشكيلاته بموجوداتها الداخلية وبمرجعياتها الجوهرية، يصيغها برؤية حسية بصرية خاصة تكشف لغته ومهارته فيها، تكشف لغته بمفرداتها وما يميزها من لون وشكل وما ينبغي أن تتحرك فيه تأسيسا لوقائعه الخاصة وما يجب أن يكون مركزا لاهتماماته.
بحرفية الالتصاق بتلك الأوجاع، وبحساسية عالية لخصائصها ينجز الفنان التشكيلي أبودان عمله ويرتقي بتشكيلاته التي تحمل كفاءاته العالية نحو استغراقات خاصة بوسائط خاصة
يمكننا أن نقول إن أبودان لا يرسم اللوحة بل ينحتها، ولا يمكن أن يستغني عن هذا النحت، به يغور في فضاءاتها، ويرتب وقائعها وأحداثها، ويعرض أشكالها المختلفة بنمطية الحفاظ على قنوات التواصل مع متلقيه وإن كان يركن أحيانا إلى الغموض المصحوب بمشيرات أسلوبية بأنفاس تغمرها مشاعر الأسى حينا/الزمن الحاضر/، وحينا مشاعر الخال خالوك (شقائق النعمان/الزمن الماض)، وبذلك التناغم فيما بينهما يجسد أبودان تلك الرائحة وعلى طريقة الانخراط في أنموذج غير سائد، يستنطق جمالياتها برؤيته الفنية حتى تبدو التجربة في أكثريتها وكأنها محاولات تعبيرية عن روحين كادت المسافات بينهما أن تتعمق. التجربة هنا عميقة مليئة بكافة التناقضات والأزمات، ومع افتراضه بوجود تمايز في حركاتها الفنية وفي اتجاهاتها التجريدية والتي قد تشتمل الرموز في عملياتها المتوالية والمتزامنة وبإثارة أنواع لا حصر لها من المشاعر والأحاسيس، وبالمحصلة فمحاولاته لفهم اللاشعور تتطلب الهيمنة على التجربة ذاتها بجرأة وجدة حتى يتجسد الإبداع الخلاق وهو يشق طريقه الذي اختاره.
بطبيعة الحال أبودان يقوم بالتعامل مع مفاهيم يطرحها بمتعة وارتباط كنتيجة غير محدودة للطبيعة الحسية الخاصة لوسائطه، فهو هنا ومن خلال الشروط التي تمكنه من تصنيف المفاهيم والتصورات العديدة على قدر من محاكاة الانفعالات وبالدقة التي تحتاجها.
يهتم أبودان ببحثه الخاص، وبأدواته الخاصة التي ستحمل كل مقولاته التي كانت تشغله على امتداد الطريق وفي كل انعطافاته.