أزمة الخبز في تونس: الاعتراف بالواقع أم إنكاره

مع كل غياب جزئي لمادة الدقيق وتعثر عرض الكميات المعهودة من الخبز في المخابز تظهر في المشهد ردود فعل غاضبة وتبدأ التهويمات ونظريات المؤامرة، وهو ما يدفع بالناس إلى الاصطفاف في طوابير أمام المخابز حتى لو تعلق الأمر بمجرد إشاعة كما حصل في الأيام الماضية.
أيا كانت المبررات، وهل ثمة فعلا مؤامرة داخل الإدارة كما يقول الرئيس قيس سعيد، فإن على تونس أن تتجهز لمثل هذا المشهد في مرات قادمة. ليس للأسباب التي يقولها السياسيون والنشطاء على مواقع التواصل، وهي أقرب إلى تأويلات مرضية منها إلى الوقائع، ولكن بسبب أن الأزمة الاقتصادية العالمية في الغذاء لا تزال في أولها. وإذا كانت دول الجنوب قد تدبرت أمرها في السنتين الأخيرتين فقد تعجز عن ذلك في سنوات لاحقة، ليس لتقصير منها، ولكن بسبب ظروف خارجة عن نطاقها.
تسمع كثيرا من الشعارات بشأن الاعتماد على الذات، وهي شعارات غير واقعية لأنها تنطلق من خلفيات سياسية تقوم على فكرة أن دولة من العالم الثالث، عاشت منذ أول يوم استقلال على الاندماج في الاقتصاد العالمي، يمكن أن تأخذ قرارا في لحظة ما بالتوقف عن هذا الاندماج والسير في اتجاه معاكس يقوم على الانغلاق والعيش من منتجاتها الخاصة، في تجربة تخفي حنينا لألبانيا أنور خوجة حين اكتشف العالم بعد سقوطه أن البلد يعيش ما قبل الحضارة.
◙ مع حسن الإدارة والرغبة في وضع إستراتيجية متوسطة المدى لتحسين الإمكانيات الذاتية، تحتاج الحكومة إلى خطة اتصالية تقوم على المصارحة وتشريك الناس في الإحساس بصعوبة المهمة
يمكنك أن ترفع شعارات التقشف، أن تفكر في دعم القطاع الزراعي للبلاد وتطويره، أن تعبئ المالية العمومية من الضرائب، أن تمنع استيراد منتجات تعتبرها الحكومة ليست ضرورية. لكن هذا حل مؤقت قد يصلح عاما أو عامين، قد يحل المشكلة ظرفيا، لكن لا مناص في الأخير من الاندماج في الاقتصاد العالمي والاستمرار فيه والالتزام بنواميسه.
هل يمكن فعلا الاعتماد على الذات في المجال الزراعي وأساسا الحبوب التي تشغل مساحات واسعة من الأراضي ويحتكم إنتاجها للأمطار، الأمر الذي دفع المزارعين إلى التخلي عن فكرة الاستثمار في الحبوب في ظل مناخ يتسم بالجفاف وتراجع مواسم الأمطار عما كان يحدث في السابق.
أن تقرر الحكومة التقشف في المياه وفي نفس الوقت تريد أن تحافظ على صابة الحبوب في ظل شح الأمطار، فهذه معادلة صعبة، أمر خارج عن نطاقها، وبالتالي فإن أي محاولات للاستمرار في المعادلة ستكون خطرا إما بخرق قرار التقشف في المياه أو جر المزارعين إلى مغامرة الزرع في مناخ غير ملائم صارت فيه الأمطار تأتي مع موسم الحصاد بدل مواقيت الحرث ونمو النبات، في ظل تغيرات واضحة متعلقة بالاحتباس الحراري.
وتأثير هذا الوضع سيتسع ليشمل منتجات زراعية أخرى خاصة ما تعلق بالمنتجات التي تعتمد على الري من خضر وغلال، والأفضل تهيئة الناس للمرحلة الجديدة بدل إسماعهم ما يريدونه والإيحاء بأن البلاد لا تزال قادرة على الاستمرار في وضع سابق، أي القدرة على توفير كل المواد دون مشاكل ولا صعوبات.
الواقعية والعقلانية اللتان يفترض أن تتحرك وفقهما الدولة تدفعان إلى تغيير الإستراتيجية، وليس إلى الحفاظ عليها برغم مخاطرها العالية.
التجاوز يحتاج إلى وقت ورؤية وحوار وطني حول قطاع الزراعة يجمع مختلف الأطراف المتداخلة لتقييم الواقع أولا، ووضع أسس منطقية تتماشى مع المتغيرات المناخية من أجل البدء في التغيير من دون مبالغات في الاستنتاج من مثل الحديث عن السيادة الغذائية، وهو ما أشار إليه أستاذ الاقتصاد التونسي رضا الشكندالي حين قال في تصريح سابق لـ”العرب” إن “تحقيق السيادة الغذائية ليس بالأمر الهيّن بل يتطلب إستراتيجية من 5 إلى 10 سنوات، مع تحسن مستوى الدينار التونسي الذي بتراجعه أصبح هناك عجز غذائي وفي مجال الطاقة في تونس”.
◙ معركة الاحتكار حقيقية ومتجذرة وتحتاج إلى وقت طويل وطول نفس للقضاء عليها. لكنها لا تفسر وحدها أزمة الغذاء التي ستهدد تونس في السنوات القليلة القادمة
وأضاف الشكندالي أن “تحقيق السيادة الغذائية يبدأ عبر تشجيع المزارعين على الإنتاج وتسهيل الإجراءات البيروقراطية وتسريح التمويل الموجه للقطاع الزراعي، فضلا عن تشجيع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وضمان ديمومة منظومات الإنتاج وتوفير المواد الأولية”.
لا يمكن للحديث عن رهانات المستقبل والبدائل الذاتية، الظرفية والإستراتيجية مع ما تحمله من تفاؤل، أن يمنع من تفكير هادئ في إدارة الأزمة حاليا، أي تقديم صورة واقعية للناس وتخفيض انتظاراتهم من دون انسياق وراء الشعبوية وما قد تستدعيه من تضليل أو تهويم خوفا من الاستثمار السياسي للخصوم.
صحيح أن الحكومة ستكون محرجة سياسيا بسبب أي اعتراف قد يفهم منه أنها غير قادرة على حل حاسم، لكن تلك هي الحقيقة. الأفضل أن تبدأ حكومة السيدة نجلاء بودن بالمصارحة وتشريك الناس في التفكير والوعي باللحظة التاريخية التي يعيشونها أفضل من أن يعرفوا لاحقا أنها تكتمت عليهم في غير موجب، ويؤولون ذلك على أنه عجز عن الاستشراف.
من المهم أن تكون الخطوة الأولى الأهم قبل المصارحة هي تنظيف البيت من الداخل، ومواجهة سوء الإدارة وتصويبه حتى تقدر الحكومة على توظيف كل الإمكانيات في إدارة الأزمة المؤجلة راهنا، وهذا ما يدعو له الرئيس سعيد وتسعى الحكومة إلى تنفيذه. وهناك سوابق تجعلها تعطي الأولية لهذا الموضوع، من ذلك ما حصل من استهانة منذ سنوات قليلة بمخزون القمح، حيث تُرك الفائض منه دون اهتمام ما جعله عرضة للإتلاف وسط تأويلات عن ارتباط ذلك بنفوذ لوبيات التوريد المنزعجة من وفرة الإنتاج المحلي.
◙ أيا كانت المبررات، وهل ثمة فعلا مؤامرة داخل الإدارة كما يقول الرئيس قيس سعيد، فإن على تونس أن تتجهز لمثل هذا المشهد في مرات قادمة
هناك معركة فعلية متعددة الأوجه مع اللوبيات التي تتحكم في القطاع الزراعي من الحبوب إلى الخضروات والغلال والأعلاف وحتى قطاع الدواجن، وقد استفادت من ضعف الدولة في السنوات العشر الماضية لتكيف السوق حسب أجنداتها، وتتحكم في صغار المزارعين وفي الإنتاج المحلي بالطريقة التي تسمح لها بإحداث النقص في الكميات، ما يعطيها مبررا للاستيراد والتحكم في الكميات المعروضة وبالأسعار التي تريدها.
إن معركة الاحتكار حقيقية ومتجذرة وتحتاج إلى وقت طويل وطول نفس للقضاء عليها. لكنها لا تفسر وحدها أزمة الغذاء التي ستهدد تونس في السنوات القليلة القادمة. ربما تجد الحكومة التونسية في قضية الاحتكار فرصتها لتفكيك لوبيات النفوذ الاقتصادي التي تتقاطع مع أجندات سياسية، أو تريد توجيه ضربات لكبار المهربين والمحتكرين والمضاربين لإظهار قوتها. لكن ذلك يبقى أمرا مرحليا لا يمكن أن يغطي على الأزمة المتوقعة، ولا يمكن إدانة الحكومة فيه بالتقصير أو التهاون.
مع حسن الإدارة والرغبة في وضع إستراتيجية متوسطة المدى لتحسين الإمكانيات الذاتية، تحتاج الحكومة إلى خطة اتصالية تقوم على المصارحة وتشريك الناس في الإحساس بصعوبة المهمة. فالاستيراد يعني عملة صعبة والدينار في وضع غير مريح، وهو ما يزيد من صعوبة توريد الحبوب خاصة في ظل تنافس كبير مع دول العالم الثالث الأخرى التي تسعى بدورها لتحصيل الكميات التي تجعلها في مأمن من آثار الحرب في أوكرانيا ومن أي تأثيرات مستقبلية من الجفاف.
من حق الدولة أن تدافع عن صورتها وإظهار قدرتها على إدارة الأزمات، لكن من واجبها أن تضع الناس في صورة ما يجري ليستعدوا لما هو آت ليس بالطوابير أمام المخابز، ولكن بتعديل سلوكيات الغذاء والتعود على التقشف في بلد يعرف بأنه من أكثر دول المنطقة استهلاكا للخبز والمعجنات وأكثر إتلافا للغذاء.