نجيب محفوظ الغائب الحاضر في تكية أبوالدهب

عشق الأديب المصري نجيب محفوظ الحارة فخلدها في أغلب مؤلفاته، واهتم بالتكايا التي كانت منتشرة بكثرة في الحارات المصرية، وحتى بعد غيابه كانت الحارة ملجأه الأخير أين يقع متحف خاص به، يسرد تجربته ويعيده إلى مكانه الأول، وإلى تكية أبوالدهب التي كان يرتادها أحيانا ليتأمل الحياة داخلها وينقل إلى القارئ فهمه للحياة على هيئة عالم مصغر يختصر الواقع في مصر وحاراتها القديمة.
إذا زرت مصر وتمشّيت في أزقتها وحاراتها الشعبية وخاصة القديمة منها والتي مازالت تحافظ على طابعها المعماري، كل مَعْلم حسب العصر الذي ينتمي إليه، ستدرك -إن كنت قارئا ومطلعا على الأدب المصري- سر عشق الأديب الراحل نجيب محفوظ للحارة وجعلها إطارا مكانيا وبطلا في أغلب أعماله.
نجيب محفوظ الذي غادرنا في عام 2006، بعد أن خلد سيرة الحارة وشبكة العلاقات داخلها ومشكلاتها ومكانتها ضمن سيرورة التطور الاجتماعي في مصر والمنطقة العربية، لا يزال حاضرا بكل تفاصيله وجزئياته ومقتنياته الصغيرة والثمينة أيضا في قلب الحارات المصرية، وفي مكان لطالما كان الأقرب إليه، يمر عليه كل يوم، قضى فيه الكثير من وقته وبحث فيه عن الراحة والسكون، وأخذ منه جزءا كبيرا من أفكار أعماله الأدبية، إنه تكية محمد بك أبوالدهب التي تقع بالقرب من منزل الأديب في حي الجمالية، والتي أصبحت اليوم متحفا خاصا به.
وتعد تكية أبوالدهب ثانية أهم المجموعات الأثرية في القاهرة التاريخية وتجسد روعة العصر الإسلامي بعد مجموعة السلطان الأشرف الغوري (1504)، وتتميز بتكاملها ما بين جامع وتكية، وكانت من أهم التكايا في ذلك العصر.
عشق لم ينته
بدأت علاقة نجيب محفوظ بالحارة المصرية منذ نشأته في حي الجمالية وسط القاهرة حيث منزله المطل على ميدان القاضي وعلى حارة قرمز. ومن ثم كانت الحارة مصدر إلهام أساسي في معظم رواياته، حيث تجسد هذه الحارة ملامح الشخصية المصرية التي كونت في أعمال "أديب نوبل" عالما تتشابك فيه القصص والحكايات الغنية بتفاصيل الحارة المصرية، كما تجسد معاناة وأفراح قاطنيها.
لم تكن تلك الحارات مجرد أزقة يعبرها الناس بل هي حياة تنبض بأشخاص وعلاقات عبر من خلالها محفوظ ليروي أزمنة الاحتلال البريطاني وبداية ثورة 1919 في “زقاق المدق"، وانعكاسها على المجتمع المصري الذي تمثله أسرة "أحمد عبدالجواد" في ثلاثية "بين القصرين وقصر الشوق والسكرية".
كانت الحارة هي محور كتابات محفوظ بما فيها من مفردات مثل السور العتيق والتكية والسبيل والكُتاب والمقهى والغرز والدكاكين والأزقة والبيوت القديمة المتهالكة والقصور الشاهقة. فالحارة لديه عالم مغلق على ذاته، مفعم بالحياة، لا يرتبط بزمان أو مكان محدديْن، لكنه يدفعنا إلى أن نفكر في الحياة ذاتها إن لم تكن الحارة نفسها بالنسبة إلى محفوظ تمثل العالم بكل ما فيه من تجارب إنسانية.
ولأن الحارة بطل دائم في أغلب أعمال نجيب محفوظ فإنه يصور البؤس والألم واليأس الذي يحاصر أبناءها ويدفعهم إلى التمرد على واقعهم والتمسك بسعادة منشودة، وقد قال عنها في روايته الشهيرة "أولاد حارتنا" التي صدرت في عام 1962 “رغم تعاسة حارتنا فهي لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة في القلوب المتعبة".
هذه الرواية كانت أحد المؤلفات التي تم التنويه بها عند منحه جائزة نوبل في عام 1988، رغم أنها أثارت جدلا واسعا في الأوساط المصرية وحاولت جهات دينية منعها، وبالفعل لم تروج في مصر إلا في عام 2005 حيث قررت دار الهلال أن تعيد طباعتها وتوزيعها داخل مصر بعد أن ظلت الرواية لسنوات تصل إلى القارئ المصري تهريبا.
وفي انشغاله بعوالم الحارة المصرية، لم يكن أمام نجيب محفوظ مفر من أن يدخل عالم التكية وينقلها إلى القارئ المصري والعربي، فجاءت في كل أعماله كمقصد لعابري السبيل والمتصوفين والدراويش وطلاب العلم، وكساحة للنجاة من صراعات داخل الحارة التي هي فضاء رمزي للإنسانية كلها.
ومن أشهر التكايا تكية محمد بك أبوالدهب (هو أحد المماليك الذين سيطروا على زمام الأمور في مصر خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر)، التي تقع بالقرب من الجامع الأزهر ضمن مجمع يطلق عليه اسم مجمع أبوالدهب ويضم إلى جانب التكية مسجدا ومدرسة.
وصف نجيب محفوظ التكية في أغلب رواياته وتطرق إلى الحياة داخلها باستفاضة، ومن هذه الروايات رواية “ملحمة الحرافيش” (1977) التي قال فيها: "وكلما ضاق صدره مضى إلى ساحة التكية، يؤاخي الظلام، ويذوب في الأناشيد. وتساءل مرة في حيرة: ترى أيدعون لنا أم يصبون علينا اللعنات؟ وتساءل مرة أخرى في أسى: من ذا يحل لنا هذه الألغاز؟ وتنهد طويلا ثم استطرد: إنهم يغلقون الأبواب لأننا غير أهل لأن تفتح في وجوهنا الأبواب!".
الحاضر الغائب
يقع متحف نجيب محفوظ في تكية أبوالدهب على مساحة 1200 متر مربع، ويتكون من طابقين ويضم عددا من المكتبات، منها مكتبة عامة ومكتبة النقد الأدبي ومكتبته الشخصية بجانبها قسم مخصص للفنون والآداب. كما يضم المتحف مؤلفات نجيب محفوظ بالإضافة إلى مكتبة رقمية تحوي مؤلفات أديب نوبل وعددا من المؤلفات التي تتحدث عنه، فضلا عن مجموعة من الصور عن أهم فترات حياته والشخصيات المؤثرة في مسيرته، وعن مساراته التي كان يمضي فيها يوميا من بيته إلى العمل ومن العمل إلى مقهى "ريش" الثقافي أين كان يجلس ليكتب ويتحاور مع أصدقائه من الكتاب والصحافيين والمثقفين.
◙ علاقة محفوظ بالحارة المصرية بدأت منذ نشأته في حي الجمالية وسط القاهرة حيث منزله المطل على ميدان القاضي
ويضم المتحف أيضا قاعات للدرس تنظم فيها عادة ورش كتابة الرواية والسيناريو والقصة القصيرة وكل الأنشطة الخاصة بالرواية مثل حفلات التوقيع والندوات، بالإضافة إلى قاعة النياشين التي تعرض أهم الشهادات والأوسمة والنياشين التي حصدها محفوظ خلال مسيرته، منها جائزة قوت القلوب الدمرداشية عن “رادوبيس” 1942، وجائزة وزارة المعارف عن “كفاح طيبة” 1944، وجائزة الدولة في الأدب عن “بين القصرين” 1957، وجائزة مجمع اللغة العربية عن “خان الخليلي” 1946، ووسام الاستحقاق 1963، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 1968، ووسام الجمهورية 1972، فضلا عن الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأميركية بالقاهرة، وجوائز من هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وشهادات وتكريمات من مهرجانات السينما، وجوائز من اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وجائزة كفافيس عام 2004.
ويضم المتحف قاعة "الحارة" التي توضح كيف كانت نشأة محفوظ بحي الجمالية وكيف جعلته ينغمس في عالم الحارة ويستلهم منها مؤلفاته، كما يعرض فيها فيلم عن حارة نجيب محفوظ وتأثيرها عليه. أما قاعة "سيرة ومسيرة" فتضم مقتنيات محفوظ الشخصية ولوحات تجسد أديب نوبل وسط الناس وعائلته ومقتطفات من تاريخ حياته. في حين يتجلى محفوظ في قاعة “تجليات” بمكتبه الخاص وكرسيه وتماثيله الخشبية الصغيرة، وتحيط بكل ذلك الكثير من الكتب.
وخصصت قاعة "فيلموغرافيا" لعرض فيلم وثائقي قصير عن نجيب محفوظ ولقطات لأهم أعماله التي تحولت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات وجسدها كبار الفنانين. ورغم أنه يقع في قلب القاهرة التاريخية، أين تكثر حركة السياح والطلبة والباحثين والمستكشفين، إلا أن المتحف يخلو من الزوار كعادة المتاحف المخصصة للأدباء والمفكرين التي لا تحظى بإشعاع كبير كتلك المخصصة لتاريخ الفنانين والملوك والسلاطين.
سر السجادة التونسية
في القاعة التي تعرض أهم جوائز نجيب محفوظ، تعرض سجادة حمراء كبيرة، يمنع لمسها أو الاقتراب منها كثيرا، هي هدية تونسية كان قد قدمها الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي للأديب المصري وأصر على الاحتفاظ بها ثم قدمتها عائلته ضمن عدد كبير من مقتنياته لوزارة الثقافة قصد تشييد المتحف، ومن هذه المقتنيات شهادة حصوله على جائزة نوبل للآداب، وأكبر وسام مصري.
وتقول أم كلثوم، ابنة الأديب الراحل، إن "الرئيس التونسي بن علي جاء في زيارة خاصة لمصر وطلب مقابلة والدي في مقر إقامته ضمن شخصيات فنية وسياسية وثقافية، كان منهم الموسيقار محمد عبدالوهاب، وأهدى له السجادة باعتبارها أحد المعالم الثقافية والتراثية لتونس".
وتشير إلى أن والدها "اعتبر السجادة هدية ثمينة جدًا واحتفظت بها الأسرة وحافظت عليها وقررت بعد وفاته، بقرار من والدتها أن تهديها للمتحف ضمن باقي المقتنيات الشخصية ومكتبته ومكتبه".
وأثارت هذه السجادة ضجة واسعة منذ افتتاح المتحف حيث تفيد تقارير بأن السجادة المعروضة في المتحف لا تخص نجيب محفوظ، بل تم استبدال السجادة الأصلية بواحدة فقيرة. كما أنّ الكثير من المقتنيات التي تبرعت بها الأسرة غير معروضة في المتحف. وبخلاف السجادة، هناك مسبحة محفوظ، والعدسة المكبرة وأشياء أخرى كثيرة تمتلكها ابنة محفوظ حصرا مع صور لها.
وسواء أكانت السجادة حقيقية أم لا، فإن الأمر لن يهم الزائر العربي أو الأجنبي في شيء، يكفي أنه سيطلع عن قرب على عالم نجيب محفوظ الذي وإن غادر الحياة فإنه لم يغادر الحارة المصرية ولا يزال حاضرا فيها بكل ما كتبه عنها. في المتحف يستشعر الزائر عمق تأثير مصر وحارتها على أديب نوبل، وكيف ارتقى بمستواه الفكري والأدبي، وحياته قبل محاولة الاغتيال وبعدها، فقد كان في العام 1995 ضحية محاولة اغتيال فاشلة أقدم عليها شابان من قبل الجماعات الإرهابية التي أصدرت فتوى بإهدار دمه بعد نشر رواية "أولاد حارتنا". أُعدم الشابان المشتركان في محاولة الاغتيال رغم تأكيد محفوظ أنه غير حاقدٍ على من حاول قتله، كما تمنى لو أنهما لم يُعدما.
لم يمت نجيب محفوظ حينها، لكن أعصابه على الطرف الأيمن العلوي من الرقبة قد تضررت بشدة إثر هذه الطعنة، وكان للحادثة تأثيرٌ سلبي على عمله، حيث أنه لم يكن قادرًا على الكتابة سوى لبضع دقائق يوميًا، واضطر إلى تسجيل مذكراته وتدوينها بمساعدة أشخاص آخرين، ويعرض هذا المتحف بعضا منها، ليجعل زائره يعيش التجربة الفارقة التي أثرت على حياة الراحل. لكن محفوظ ليس حاضرا بروحه الأولى، أي بمخطوطاته على هيئتها ونسخها الأولى، بل حتى رواياته أغلبيتها معروضة في طبعاتها الأخيرة.
◙ الزائر العربي أو الأجنبي سيطلع عن قرب على عالم نجيب محفوظ الذي وإن غادر الحياة فإنه لم يغادر الحارة المصرية
هذا ما دفع الصحافي أحمد شوكت إلى استنكار ما اعتبره تساهلا من وزارة الثقافة في تأسيس متحف بممتلكات لا تكشف الصورة الأصلية والحقيقية لنجيب محفوظ؛ فالطبعات الأولى من أعمال محفوظ غير متوفرة، وأرشيفه الصحفي غير متوفر أيضا، باستثناء صفحة واحدة من جريدة “الأهرام” أثناء نشر رواية “أولاد حارتنا”، ولا تتوفر الدراسات النقدية التي كتبت عن روايته وهي بالآلاف، ولا حتى الأرشيف الفوتوغرافي، ولا أعماله التي لم تنشر في كتب، ولا ترجمات أعماله في مختلف اللغات. ويرى شوكت أن "الباحثين لن يذهبوا من أجل مشاهدة ملابس نجيب محفوظ.. وإذا فعلوا، فلن يحدث ذلك سوى مرة وحيدة".
صحيح أن المؤسسات في الدول العربية تتحرك وفق بيروقراطية قاتلة ولا تخضع أغلب المنشآت الثقافية -ولاسيما المتاحف الخاصة بأشهر الكتاب والفنانين- لدراسات صارمة تأخذ بعين الاعتبار هوية الفنان وأسلوبه الفني وتركيبته الفكرية والنفسية التي ميزته حيا، لتصنع له متحفا يميزه بعد غيابه، ويكون قادرا على إقناع الزائر أو السائح والمفكر والباحث بمحاولة استكشافه وتمضية أطول وقت ممكن بين قاعاته.
بهذا المتحف يُختصر ويَكتمل إرث الأديب “العربي” نجيب محفوظ الذي كان علامة فارقة في الأدب العربي وخلف مؤلفات مازالت الأجيال تقرأها وتناقشها وتنجز حولها البحوث والدراسات.
في هذا المتحف تستنشق “واقعية” نجيب محفوظ و”مصريته” وقربه المفرط إلى مجتمعه، تسافر في خياله الخصب الذي تستطيع معه تخيل شكل البلاد وطريقة تفكير أهلها، وهي الطريقة التي عاصرها الأديب المصري بكل تحولاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والتي تجد انعكاسا لها في تجربة محفوظ الأدبية ويمكن اعتبارها أساس وجوده الأدبي الذي لا يزال مستمرا رغم غيابه.