بعد عاصفة ابن خلدون وإخوان الصفا جدل جديد حول كتاب "الإفادة والاعتبار"

هل اقتبس المقريزي كتابه الشهير عن الشدة الأيوبية من البغدادي.
الاثنين 2023/05/15
في النفوس وحوش يفكّ الجوع كوابحها (لوحة للفنانة رندة مداح)

الكثير من الكتابات أيا كانت في الأدب أو الفكر أو التأريخ وغيرها تتأثر بكتابات سابقة لها، ولكن أحيانا نجد ما يتجاوز التأثر إلى النقل، الكثير من المؤلفات نجد فيها ما هو منقول عما قبلها، وهذا يثير جدلا كبيرا خاصة إذا كان الكاتب ذا شهرة وصيت وتاريخ راسخ.

في خريف 1996 نشر أستاذ التاريخ الدكتور محمود إسماعيل دراسة عنوانها "هل سرق ابن خلدون نظريات إخوان الصفا؟"، في صحيفة "أخبار الأدب" القاهرية، فأثار عاصفة امتدت من مصر إلى المغرب، تبناها ورثة المعطف الخلدوني. دافعوا بشراسة عن مكانة ابن خلدون ورمزيته، وتجاهلوا "أدلة الاتهام".

 ولا يزال الرحالة العراقي عبداللطيف البغدادي (1162 ـ 1231 ميلادي) ينتظر إنصافا لمؤلّفه “كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر”، بعد ورود البعض من سطوره في كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة” للمؤرخ المصري تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (1365 ـ 1441 ميلادي).

البغدادي والمقريزي كلاهما أرّخ لمجاعة. الأول وكتابه لا يعرفهما إلا المتخصصون. والثاني وكتابه مشهوران. الأول إذا ذكر اسمه استدعى اسم عبداللطيف البغدادي أحد ضباط الحكم في مصر بعد يوليو 1952. والثاني يرتبط ذكره بالتأريخ لكارثة جماعية. البغدادي سجل جانبا من تفاصيل مجاعة بدأت عام 1200 ميلادي. كان شاهدا عليها في عصر العادل أبي بكر شقيق صلاح الدين الأيوبي المتوفى عام 1193. والمقريزي كتب عن مجاعة وقعت قبل ميلاده بثلاثة قرون، وكانت عنوانا للشدة المستنصرية التي بدأت نحو عام 1065 ميلادي، واستمرت سبع سنين. فكيف استعار المقريزي، أو استحلّ، ما ذكره البغدادي، ونسبه إلى نفسه، وإلى مجاعته؟

فواجع الجوع والحاجة

◙ في كتاب "الإفادة والاعتبار" يوثق البغدادي للمشاهدات، بعقل تأريخي بارد وأحيانا بتعليق على واقعة بانفعال منضبط
◙ في كتاب "الإفادة والاعتبار" يوثق البغدادي للمشاهدات، بعقل تأريخي بارد وأحيانا بتعليق على واقعة بانفعال منضبط

عنوان كتاب عبداللطيف البغدادي هو “كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر”، ويقع في 132 صفحة، ونشرته دار الثقافة الجديدة بالقاهرة، وحققه الكاتب المصري عبدالعزيز جمال الدين. في الكتاب توثيق للمشاهدات، بعقل تأريخي بارد، وأحيانا تعليق على واقعة بانفعال منضبط. كتب البغدادي في المقدمة أنه ألّف مصنّفا ضخما عنوانه “أخبار مصر”، ورأى أن يستخلص منه "الحوادث الحاضرة، والآثار البادية المشاهدة، إذ كانت أصدق خبرا، وأعجب أثرا، وأن ما عداها قد يوجد بعضه أو كله في كتب من سلف مجتمعا أو مفترقا، فألّفت ذلك في فصلين منه فجردتهما وجعلتهما مقالتين في هذا الكتاب".

تعجل البغدادي إنهاء الكتاب، ليقدمه إلى السلطان صلاح الدين “صاحب الأمر وإمام العصر، إمام الأنام ومفترض الطاعة بموجب شريعة الإسلام، خليفة الله في أرضه ومنتهى مقرّ وحيه، والقيم على العالم بإمضاء أمر الله تعالى فيهم ونهيه، سيدنا ومولانا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين ذي المواقف المقدسة النبوية الطاهرة الزكية الممجدة المعظمة الإمامية الباهرة أنوارها، الزاهرة آلاؤها نهارا وليلا”. مبالغات قدسية تضع السلطان في منزلة فوق بشرية، وتمنحه صفات لا تكون إلا لنبي رسول.

البغدادي المولود في بغداد رحالة، عمل في خدمة صلاح الدين في الشام، وخدمة أولاده في مصر، ورتبوا له مئة دينار في الشهر ليتفرغ للعلم. وباستثناء المقدمة ذات الطابع الأيوبي فإن الكتاب نصّ علمي يدل على معارف موسوعية لمؤلف يحيط بتاريخ مصر وجغرافيتها وآثارها وعمارتها وأطعمتها وأشجارها ونباتها، وحيواناتها البحرية والبرية، ففرس النهر "بالجاموس أشبه منه بالفرس… وهو حيوان عظيم الصورة هائل المنظر شديد البأس يتبع المراكب فيغرقها ويهلك من ظفر به منها". ومن النهر إلى البر يقول “الحمير بمصر فارهة جدا، وتركب بالسروج وتجري مع الخيل والبغال النفيسة ولعلها تسبقها".

في سنة 596 هجري (1200 ميلادي) انخفض منسوب النيل، واشتد القحط، "ودخلت سنة سبع مفترسة أسباب الحياة… ووقع المرض والموتان، واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف… إلى أن أكلوا صغار بني آدم فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل".

◙ البغدادي والمقريزي كلاهما أرّخ لمجاعة. الأول وكتابه لا يعرفهما إلا المتخصصون. والثاني وكتابه مشهوران

ومن مشاهدات البغدادي: "رأيت صغيرا مشويا في قفّة، وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما". "ورأيت مع امرأة فطيما لحيما فاستحسنته وأوصيتها بحفظه، فحكت لي أنها بينما تمشي على الخليج انقض عليها رجل جاف ينازعها ولدها فترامت على الولد نحو الأرض حتى أدركها فارس وطرده عنها".

"ولقد رأيت امرأة يسحبها الرعاع في السوق وقد ظُفر معها بصغير مشوي تأكل منه، وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شؤونهم وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره، فعاد تعجبي منهم أشد وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه".

"ورأيت قبل ذلك بيومين صبيا نحو الرهاق مشويا وقد أخذ به شابان أقرا بقتله وشيّه وأكل بعضه". المجاعة تؤدي إلى ألفة الفظائع، واستئناس البشاعات. كتب البغدادي أن “جميع ما حكيناه وشاهدناه لم نتقصده... صادفناه اتفاقا بل كثيرا ما كنت أفر من رؤيته لبشاعة منظره".

في النفوس وحوش يفكّ الجوع كوابحها. يروي البغدادي أن بيع الأحرار شاع "عند من لا يراقب الله، حتى تباع الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وعرض علي جاريتان مراهقتان بدينار واحد، ورأيت مرة أخرى جاريتين إحداهما بكر ينادى عليهما بأحد عشر درهما. وسألتني امرأة أن أشتري ابنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم فعرفتها أن ذلك حرام فقالت خذها هدية".

تلك ملامح من "الشدة الأيوبية". لكن "الشدة" إذا ذكرت لحقت بها صفة المستنصرية لا الأيوبية، بفضل شهرة المقريزي. وفي الشدة الأيوبية فواجع أكتفي منها بما رآه البغدادي.

تجاهل المصدر

كتاب "إغاثة الأمة" للمقريزي ينال حظوظا من الطبع والشيوع واهتمام يقتصر عليه ولا يتعداه إلى مقارنة بعض ما ورد فيه بما كتبه البغدادي
◙ كتاب "إغاثة الأمة" للمقريزي ينال حظوظا من الطبع والشيوع واهتمام يقتصر عليه ولا يتعداه إلى مقارنة بعض ما ورد فيه بما كتبه البغدادي

"كتاب الإفادة والاعتبار" للبغدادي غير شائع. منذ سنوات نفدت طبعته التي نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفي عام 2021 نشرته دار الثقافة الجديدة. أما كتاب “إغاثة الأمة” للمقريزي فينال حظوظا من الطبع والشيوع واهتمام يقتصر عليه، ولا يتعداه إلى مقارنة بعض ما ورد فيه بما كتبه البغدادي. وبعض ما ذكره البغدادي انتقل إلى كتب المقريزي، نقلا حرفيا:

البغدادي وصف بناء الأهرام بأنه “عجيب من الشكل والإتقان ولذلك صبرت على ممر الزمان بل على ممرها صبر الزمان..". وفي هامش الكتاب أورد المحقق عبدالعزيز جمال الدين الجملة نفسها من كتاب “المواعظ والاعتبار" للمقريزي.

كتب البغدادي في وصف الهرم الأكبر من الداخل: "جل من كان معنا ولجوا.. وولجته مرة"، من فتحة في الضلع الشمالي تنسب إلى الخليفة المأمون. وذكر المقريزي الوصف نفسه.

كتب البغدادي معايناته بضمير المتكلم. عرف بمن اعتادوا ارتقاء الهرم، في قرية مجاورة، "فاستدعينا رجلا منهم..  كنت أمرته أنه إذا استوى على سطحه قاسه بعمامته فلما نزل ذرعنا من عمامته مقدار ما كان قاس فكان إحدى عشرة ذراعا بذراع اليد". والمقريزي كتب بضمير الغائب عن مساحة قمة الهرم: "وذكر أن ذرع سطحها أحد عشر ذراعا بذراع اليد". البغدادي تحرّى الدقة اللغوية فأنّث الذراع. والمقريزي تساهل وذكّر الذراع، وتجاهل المصدر كما تجاهله أيضا بخصوص اختفاء الكثير من الأطباء في الشدة الأيوبية، في كتابه "السلوك لمعرفة دولة الملوك".

البغدادي سجل أن ثلاثة أطباء يعرفهم، أحدهم استدعاه أحد "الخبثاء"، واستصحبه إلى مريض، وظل يكثر من الاستغفار ويقول "اليوم يغتنم الثواب ويتضاعف الأجر ولمثل هذا فليعمل العاملون"، وارتاب الطبيب من الرجل، وسار معه، حتى أدخله دارا خربة، وتوقف في الدرج، وسبقه الرجل يستفتح فخرج إليه رفيقه يسأله "هل مع إبطائك حصل صيد ينفع، فجزع الطبيب لما سمع ذلك"، وتمكن من الهرب، وفي فراره رآه صاحب إسطبل فقال له "علمت حالك فإن أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالحيل".

هل اطلع المقريزي على نسخة من كتاب البغدادي، ونقل منها، وتجاهل ذكر المصدر؟ إذا كان قد فعل، فلماذا لم يلتفت إلى ذلك الباحثون؟

◙ لعل دارسي المقريزي درسوه على حدة، ولم يقارنوه بأعمال أخرى، منها مصادر المقريزي نفسه. وكذلك محققو كتاب البغدادي

لعل دارسي المقريزي درسوه على حدة، ولم يقارنوه بأعمال أخرى، منها مصادر المقريزي نفسه. وكذلك محققو كتاب البغدادي، وهم قلة بالطبع. ومن هذا الفراغ البيني انطلق أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة عين شمس الدكتور محمود إسماعيل في قوله إن ابن خلدون (1332 ـ 1406) سطا في “المقدمة” على نظريات إخوان الصفا الذين عاشوا قبله ببضعة قرون، وفسر عدم إشارة دارسي ابن خلدون إلى هذا النقل بأنهم لم يدرسوا رسائل إخوان الصفا. والعكس صحيح أيضا. وظلت الفجوة بين دارسي الفلسفة ودارسي علم الاجتماع الخلدوني.

لمحمود إسماعيل مؤلفات في التاريخ الإسلامي ينطلق فيها من منهج مادي جدلي لدراسة الحركات السرية وجماعات التمرد والمهمشين. وقال إن "الشاغل الخلدوني" كان همه منذ ربع قرن، “ولم أجد الحل الشافي إلا بعد دراسة إخوان الصفا”. هكذا أصدر، عام 1996، كتابه "نهاية أسطورة.. نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا" متسلحا بنصوص مقارنة من العملين. ولم يكن هذا ليعصمه من هجوم خلدونيين اتهموه بالادعاء، وأنه يهدف إلى "اتهام كل الباحثين لابن خلدون بالجهل البين"، وأنه يردد دعاوى مستشرقين يطلقون أباطيل “موجهة ضد تراثنا وضد الحقيقة”، كما يريد هدم رموز الفكر العربي الإسلامي.

وفي عام 2000 أصدر الرجل كتاب "هل انتهت أسطورة ابن خلدون؟"، تضمن ما واجهه من اتهامات، وبعضها قاس يتهمه بالجهل. بهدوء ناقش محمود إسماعيل رافضي اجتهاده، ورأى مواقفهم متسرعة، وأحكامهم ناتجة عن انفعال عاطفي، وتشنج غير منهجي. وقال إنه يعرف أن "آفة العقل العربي المعاصر" هي "تقديس التراث وعبادة أعلامه ورموزه". وإن الدفاع عن ابن خلدون لا يعني براءته من الاتهام.

12