ميكي محتار

لا نعرف إن كان توصيف "التدمير البنّاء" ينطبق على عمليات التسريح الكبيرة التي بدأت بها شركة ديزني هذه الأيام. تريد الشركة أن تستغني عن سبعة آلاف موظف، كثير منهم يعملون في مدن الألعاب التي أقامتها ديزني في مختلف مناطق العالم. ديزني لاند أو ديزني بارك أو ديزني وورلد، هي طريقة الشركة التي استحدثتها للاستثمار في الشخصيات الكارتونية المتوالدة على مدى أكثر من قرن من الزمان. بدأ الأمر من شخصية الفأر ميكي ومر ببطوط والعم دهب والأقزام السبعة وبينوكيو وعلاء الدين وياسمين والوزير جعفر، ووصل إلى وودي وبز لاتيير في إبداعات بيكسار في سلسلة أفلام "حكاية لعبة". مدن الألعاب هذه، أو متنزهات الترفيه والمتعة كما يحبون وصفها، بقيت كعلامة فارقة على خريطة المدن الكبرى في العالم، حتى في أوقات الأزمات الاقتصادية. لكنّ حدثين متزامنين ربما غيرا معادلة النجاح.
أدركت ديزني أن العالم يتغير، وخصوصا مجال الترفيه. البث التدفقي ثورة في هذا المجال؛ يُرسَل إليك الترفيه وأنت جالس على أريكتك المفضلة في المنزل، تقلب وتختار بين الأفلام والمسلسلات والوثائقيات. عالم نتفليكس وأمازون سرق الأضواء من ميكي ماوس. ميكي انتبه بسرعة، فتحرك أوّلا لبيع وإعادة توزيع أفلامه عبر المنصات المتاحة، ثم العمل على إنشاء منصته الخاصة، والتوسع بضم إمبراطوريات عالم الفانتازيا؛ مثل شخصيات مارفيل، الرجل الحديدي، وكابتن أميركا والمنتقمين وثور، من ضمن قائمة طويلة من شخصيات الكوميكس التي تحولت إلى نجوم سينما، أو عالم الخيال العلمي؛ وذلك بشراء أفلام وأفكار سلسلة حرب النجوم. المنصة مليئة بالشخصيات الكارتونية والفانتازية وتستمر في إنتاج المزيد من إعادة تدوير الشخصيات "التاريخية" أو المستحدثة.
تزامن التغيير مع تفشي وباء كوفيد. الناس هربوا من الأماكن العامة والتجمعات. أغلقت ديزني متنزهات الترفيه. ولأن كوفيد لم يترك شيئا على حاله، خصوصا وأنه امتد لأكثر من موسم ترويجي، تغير مزاج الناس. اكتفى الناس بالشخصيات التي أمامهم على شاشة التلفزيون ذات الجودة العالية والكبيرة والمفصلة ببرامجها التدفقية حسب الطلب. لا تذهب إلى ميكي ماوس، بل ميكي ماوس يأتي إليك. عالم الترفيه اتخذ شكلا مختلفا الآن، وخلال فترة قصيرة.
الآن ديزني أمام إشكالية الإبقاء على كل شيء على حاله. تريد أن تربح من البث التدفقي ومن عروض الأفلام في السينمات ومن بيع الشخصيات الكرتونية، كلُعب أو صور أو أفلام، وأن يذهب الترفيه الناس إلى متنزهات التابعة لها. بالطبع هذا لن يحدث، خصوصا في حالة تراجع الدخل وزيادة كلفة المعيشة الراهنة. هذه الأزمة لم يتحسّب لها ميكي ماوس. البث التدفقي إلى الشاشات المنزلية يعني عدم الذهاب إلى حدائق الألعاب. هذا ما عجّل بخطوات صرف العمال بالآلاف للحدّ من النفقات.
الطريف أن ميكي ماوس نفسه وليد مرحلة تم الاستغناء فيها عن والت ديزني في شركة كان يعمل فيها، فقرر ابتكار الشخصية. النجاح جاء مع ولادة ميكي ماوس.
عالم المفارقات يجعل ديزني، ومثلها العديد من الشركات، مع الشيء وضده. تدمر من جهة عالم مدن الألعاب والشخصيات الكارتونية التي يتقمصها ممثلون يجولون بين الأطفال، وتبني عالما افتراضيا أكبر على منصتها التدفقية. إنه ما يصفه علماء الاقتصاد بالتدمير البنّاء. حيلة لغوية ربما. ميكي محتار: هل أنا شخصية حقيقية أم افتراضية؟ يا ميكي أنت شخصية كارتونية. لا تقعْ في مطب انفصام الشخصية.