الدراما لها "دراماها" الخاصة بها أيضا

تبقى النقاشات حول الدراما في الكثير من الأقطار العربية موسمية بامتياز، تندلع مع بداية شهر رمضان وتخفت بانتهائه وكأنها لم تكن. ويفسر هذا حالة الهشاشة الإنتاجية للدراما، ولا تخرج تونس عن هذه الهشاشة التي لم تخلق بعد نقاشات إصلاحية وتطويرية في العمل الدرامي.
هل حقا أنه لمن المبهج فعلا أن تصبح الدراما الرمضانية، بصفتها الفنية والإنتاجية والتسويقية، حديث الشارع وشأنا ينشغل به الرأي العام بعد أن كانت حكرا على أهل المهنة والاختصاص؟
يقول قائل: هذا في حد ذاته انتصار لكل عمل إبداعي يتحرر من نخبويته ويترجل حافيا ليكون حديث الناس في مسامراتهم، وكذلك المثقفين في منتدياتهم، ولكن هل هذا حقا مؤشر إيجابي أم أن الأمر لا يعدو أن يكون حالة موسمية، شأنها شأن الفوتبول في مباريات الدوري المحلي لكرة القدم وبطولات كأس العالم، أي تلك الأيام التي يُبرمج فيها العقل الاجتماعي على حدث يطغى على الجميع فلم يعد أحد يقوى على التفكير في شيء سواه.
المحير أن الناس يتوسعون في الإحاطة بذلك “الشيء” فلا يتطرقون إليه من باب الفضول فحسب، ولا من باب مناقشة خطوطه العامة والعريضة كمتفرجين ومستهلكين، بل يشرحونه تشريحا وكأن الجميع متخصصون و”أصحاب مصلحة”. ترى أفراد المجتمع حين يتناولون الأحزاب والمرشحين في موسم انتخابي مثلا، يتحولون إلى محللين سياسيين لا يشق لهم غبار، فتستغرب أي إلمام في السياسة هبط عليهم فجأة، ثم يشيحون بوجوههم عنها، ويلتفتون إلى همومهم الشخصية فور انتهاء تلك المناسبة.
المسألة إذن تتعلق باهتمامات موسمية، وليس بوعي فكري يطيل البحث والسؤال، ويأخذ الأمر على محمل الجد والانشغال كمثقف حقيقي. ما أحدثته المسلسلات الرمضانية في المجتمع التونسي مثلا، من نقاشات وسجالات، يجعل المراقب من غير البلد في حيرة من أمره: هل هذا المجتمع حقا يهتم لأدق التفاصيل في الصناعة الدرامية، ويلم بأساسياتها من كتابة وتمثيل وإخراج، وحتى الإنتاج والتسويق، أم أن في الأمر سرا آخر لا يمكن الانتباه إليه بسهولة.
اهتمامات موسمية
مما لا شك فيه أن الناس هنا يريدون البحث عن أنفسهم وسط الزحام اليومي والتعب المعيشي في المسلسلات التلفزيونية، ولو لشهر واحد في العام، لذلك تراهم يُقدمون على الإنتاج المحلي حتى وإن كان رديئا ثم يفحصون ما يقدم لهم وهم يتصيدون الخطوات والعثرات في آراء بعضهم. هذا على مستوى المضامين المعروضة أولا، ثم يأتي الانتصار لنجومهم وشخصياتهم المحبذة، تماما كعالم السياسة والفوتبول والغناء.
أما الطرف الخفي في هذا الاهتمام والشغف فهو الجانب المادي المتمثل في ما يقبضه الممثلون والمخرجون من هذه الجهة الإنتاجية أو تلك، تماما كسؤالهم عن أجور نجوم كرة القدم وانتقال هذا اللاعب من فريق إلى آخر.
نفس الأمر يتعلق بالسياسيين ورؤساء الأحزاب، والمنتسبين إلى هذا الفريق أو ذاك، خصوصا في تجربة ديمقراطية ناشئة مثل تونس. قد يستبعد بعضهم هذه القراءة التبريرية ويراها غريبة في بعدها المادي المحض، لكن من يستمع إلى كثرة لغة الأرقام في الأحاديث المتمحورة حول التمثيل سيقف على الحقيقة، فليست كل الفنون هواية وغراما.
مثال واضح نريد إيراده حول الخفايا الإنتاجية -وليس الفنية- المتعلقة بصناعة الدراما التلفزيونية في تونس، ولاحظوا كم تحضر لغة العقود والأرقام، وحتى الاصطفافات السياسية والاقتصادية:
ضجّت الساحة الفنية في تونس منذ مساء الأربعاء الثاني عشر من أبريل 2023، إثر إيقاف مؤسسة التلفزيون التونسي بثّ مسلسل “الجبل الأحمر” بشكل مفاجئ على الرغم من أنه لا تزال في عمر المسلسل 4 حلقات.
أقيمت لهذا الحدث ندوات متخصصة وطاولات مستديرة تشرح وتحلل وتناقش ما اجتمع المتضررون ماديا على تسميته بـ”الفضيحة” والخطوة الصاعقة التي تفاجأ بها الجميع، جمهورا وممثلين ومنتجين على وجه الخصوص، لما لحقهم من أضرار مادية قدرت بما يقارب المليون دولار، ثمن الحلقات التي رفضتها إدارة التلفزيون زاعمة أن الاتفاق كان على 20 حلقة وليس 24.
جدل غير فني
تؤكد مصادر أنه قد تمّ إعلام التلفزيون التونسي بإضافة أربع حلقات للمسلسل بصفة متأخّرة (قبل يومين من بثّ الحلقة العشرين)، مما طرح إشكالا يتعلّق بالجانب المالي والالتزامات مع المعلنين. ولم تكن المدّة كافية لإيجاد اتفاق بخصوص هذا الإشكال مما ترتّب عليه توقّف بثّ المسلسل.
وتمضي التفاعلات مع الحدث من جوانبه غير الفنية دائما، إذ كتب الناقد والإعلامي التونسي برهان بسيس، في مدونته، نقدا لاذعا سدده لسياسة البلاد وخياراتها الاقتصادية يعتبر فيه أن “محنة الجبل الأحمر” تكمن في أنه سلّم رقبته لقطاع عام تتحكم فيه بيروقراطية الدولة، وذلك على عكس مسلسل آخر ناجح من توقيع المنتج النجم والإشكالي سامي الفهري، ووصفه بأنه “اقتصاد محكوم بالمنافسة الحرة والمبادرة الخاصة”.
◙ الساحة الفنية التونسية شهدت ضجة كبيرة إثر إيقاف مؤسسة التلفزيون التونسي بث مسلسل قبل أربع حلقات من نهايته
وتساءل بسيس في حسرة عن مصير عمل جيد مثل “الجبل الأحمر” يقع في قبضة بيروقراطية القطاع العام ويتوج في الأخير بمهزلة غير مسبوقة يترك فيه الفن والإبداع جانبا ليغطس في نقاش العقود والفصول والقوانين والإجراءات مع شيء من الرقابة والمقص والدعاية الغائبة والتوقيت الاعتباطي غير مفهوم، في حين يُحظى مسلسل “الفلوجة” الذي أنتجه سامي الفهري، الرجل الذي يتهافت حوله جميع الممثلين، بالنجاح الباهر، على الرغم من أنه قادم “بسيناريو بسيط وعقد مكررة، ومع ذلك يحقق النجاح الباهر لأنه صناعة ذكاء المبادرة الخاصة دعاية واتصالا وتسويقا” على حد تعبير بسيس، الذي سخر من الوضع بقوله إننا نشبه الصين في البيروقراطية وليس في العمل طبعا.
كل هذا التوصيف والتشخيص ذهب نحو إشكالات مالية واختيارات اقتصادية بحتة، مما يدل على أن سخونة النقاش في الدراما التونسية تتأتى من مواضيع غير درامية بالمفهوم الاصطلاحي، ولكنها كذلك في السياق العام والمتصل. أليس الأجدر أن يسمى هذا العمل بـ”قصة بلا نهاية” في معناه الواقعي والمعاش، وربما تصبح له قيمة مضافة حين تباع حلقاته المرفوضة على منصات التواصل الاجتماعي، وفي السوق السوداء.