الدراما الإذاعية.. فن يتحدى مغريات الصورة ويزدهر اليوم

مسلسلات مسموعة تستغل طفرة التكنولوجيا لكن آفتها الاستسهال.
السبت 2023/04/08
إدارة الممثل مهمة صعبة في الدراما الإذاعية

رغم التطور التكنولوجي الكبير وتهديد الصورة لكل ما سواها من محامل فنية وتواصلية، فإن الإذاعات بما توفره من مواد مسموعة تلقى انتشارا كبيرا اليوم، حتى أنها تقدم العديد من الأعمال الدرامية التي تنافس الأعمال المرئية وتجد لها متابعين ومعجبين، رغم بعض الهنات التي يسقط فيها منتجوها.

الدراما الإذاعية في العالم العربي تشهد استفاقة لافتة تذكّر بمرحلة الستينات والسبعينات أي بحالة ما قبل الانتشار التلفزيوني الموسع، يوم كان الناس يتحلقون حول جهاز الراديو في المنازل فترة الإفطار أو في سهرات المقاهي ودكاكين الحلاقين وغيرها.

المفارقة أن الفضل في هذه الانتعاشة اللافتة للدراما الإذاعية لا يعود إلى الدراما نفسها التي تعيش بدورها مواطن ضعف على مستوى الكتابة والتمثيل والإخراج، وإنما إلى المحفزات والأطر التي تظهر فيها ومن خلالها.

أول المحرضات التي تجعل الدراما الإذاعية محل متابعة واهتمام هو تطورات الحياة المدنية، وهي مفارقة أخرى. أليس من المفروض ومن المتوقع أفولها بعد الثورة الرقمية الهائلة في عالم الصورة، ثم إن الراديو هو الجد العجوز لوسائل التواصل والتواصل منذ أواخر القرن التاسع عشر؟

الحقيقة هي أن السيارات ووسائل النقل، ومعها التليفونات الجوالة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، هي التي شجعت على التوجه نحو الإذاعات، وذلك لأن الصورة تتعذر متابعتها في أوقات قيادة المراكب وساعات العمل المكتبي وحالات الحركة والتجوال.

المسلسلات الإذاعية

ولو عادت ذاكرة البشرية إلى الوراء لوجدت أن للدراما الإذاعية شعبية رهيبة كانت قد حققت انتشارات واسعة النطاق
◙ الذاكرة البشرية لو عادت إلى الوراء لوجدت أن للدراما الإذاعية شعبية رهيبة كانت قد حققت انتشارات واسعة النطاق

وعليه، كان لا بد من استخدام حاسة السمع لملء ذاك الفراغ الحاصل في عصر لا بديل فيه عما يحدث أو “ما يجب أن يحدث” من وقائع على مستوى الأخبار ورصد الأحداث في الواقع الحقيقي المعاش في وكالات الأنباء أو الافتراضي التخيلي في التمثيليات الإذاعية من مسلسلات ومسرحيات.

ولو عادت ذاكرة البشرية إلى الوراء لوجدت أن للدراما الإذاعية شعبية رهيبة كانت قد حققت انتشارات واسعة النطاق خلال عقد من تطورها الأولي في عشرينات القرن الماضي، وبحلول الأربعينات من القرن الماضي أصبحت وسيلة ترفيه دولية رائدة.

على مستوى العالم المتقدم، ومع ظهور التلفزيون في الخمسينات من القرن الماضي، بدأت الدراما الإذاعية تفقد جمهورها، ومع ذلك ما تزال تتمتع بشعبية في معظم أنحاء العالم بحلول القرن الحادي والعشرين باستثناء الولايات المتحدة التي اقتصرت إذاعاتها على إعادة بث البرامج من العقود السابقة، لكن لدول أخرى تقاليد مزدهرة في الدراما الإذاعية، ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تقوم هيئة الإذاعة البريطانية بإنتاج وبث المئات من المسرحيات الإذاعية الجديدة كل عام.

أما في العالم العربي فالمسألة لا تتعلق بالتقاليد والشغف الفني بالدراما الإذاعية وخصوصياتها لدى هواة الجمع والأرشفة، بقدر ما تمليه الضرورات وطبيعة إيقاع العصر.

◙ المسلسلات الإذاعية لم تعد بنفس القوة والانتشار السابقين لكنها تجد لها مكانا في عالم الصورة والتكنولوجيا

وفي هذا الإطار قال الناقد الفني عماد يسري إن المسلسلات الإذاعية لم تعد بنفس القوة حاليا مقارنة بالوقت الذي كانت تتواجد فيه قبل انتشار القنوات الفضائية، كما أكد أنه حينما كانت توجد قنوات محدودة لا تتعدى الاثنتين أو الثلاثة، كان المسلسل الإذاعي له بريق مميز، لافتا إلى أنه رغم ذلك مازال هناك نجوم يحرصون على تقديم مسلسلات إذاعية في شهر رمضان ويجعلون المستمعين ينجذبون إلى هذا الفن.

واستطرد يسري، أنه أصبحت هناك أساليب جديدة في المحطات الإذاعية لجذب المستمع، سواء بالدعاية الكبيرة على منصات السوشيال ميديا للحلقات أو بطرح الحلقة كاملة للمسلسل الإذاعي على مواقع التواصل الاجتماعي لجذب الجمهور.

وبفضل التقدم في التسجيل الرقمي والتوزيع عبر الإنترنت، شهدت الدراما الإذاعية انتعاشًا، وقدمت البودكاست وسائل لإنشاء دراما إذاعية جديدة غير مكلفة، بالإضافة إلى إعادة توزيع البرامج القديمة.

أما على مستوى التقييم الفني للدراما الإذاعية في العالم العربي، فيتراوح بين الغث والسمين، والمتميز والعادي والضعيف، وكذلك من بلد إلى آخر، وبحسب التصنيف الموضوعي، فالتاريخي يختلف عن المعاصر، والاجتماعي الدرامي يختلف عن الاجتماعي الكوميدي، بالإضافة إلى المقطوعات التمثيلية المتصلة ببرامج وثائقية وغيرها تكتفي بدور “وسائل إيضاح”.

التمثيل الإذاعي كما هو معروف، مبني على إيصال ملامح الشخصية وعمقها عبر الصوت، والصوت وحده، لذلك يجنح الممثل نحو التفرد في هذا الجانب كي لا يتماهى ويضيع مع الأصوات الأخرى، ويحدث ما يسمى بـ”المونوتون” داخل العمل الواحد.

جنس فني

الدراما الإذاعية جنس فني له تقنياته وأدواته في التمثيل والكتابة والإخراج
◙ الدراما الإذاعية جنس فني له تقنياته وأدواته في التمثيل والكتابة والإخراج

وهذه مهمة الإدارة الإخراجية التي ينبغي أن تكون متمكنة من أدواتها، وشديدة الحرص على الأداء المتقن المقنع في مساحة ضيقة الاختيارات في غياب الصورة كما هو الحال في الدراما التلفزيونية.

وهنا، وجب التفريق بين وظيفتي المخرج الإذاعي ومهندس الصوت، ذلك أن قيام مهندس الصوت بأداء مهمة الإخراج خطأ خطير، واستهتار بهذا الفن القائم بذاته، تماما مثل أن يوكل لمدير التصوير بمهمة الإخراج التلفزيوني لمجرد أنه يمسك بناصية الصورة والإضاءة.

إدارة الممثل مهمة صعبة وحساسة في الدراما الإذاعية، وليست مجرد التصرف في صوت واستغلاله كيفما اتفق في القيام بدور يقتصر على القراءة من الورق أمام الميكروفون.

آفة الدراما الإذاعية هي الاستسهال، فأغلب مخرجي الإذاعة يكتفون بتجميع الأصوات، ومن ثم تسجيلها في ساعة أو ساعتين، مع الاكتفاء ببروفة أو بروفتين.

أما عن الكتابة للدراما الإذاعية فحدث ولا حرج، إذ يحسبها بعضهم مجرد سرد حوارات لحكاية يستعين مخرجها عادة براو للأحداث والربط بين الحوارات إن داهمه بعض الغموض والالتباس على المستمع في حال تكاثر الشخصيات وازدحام الوقائع.

الفواصل الموسيقية وحدها لا تحل المشكلة عند كل مستمع، والمونتاج الإذاعي أصعب من المونتاج التلفزيوني أحيانا، ذلك أن من أخطائه الشائعة غياب “الراكور النفسي للشخصية” أي التسلسل المنطقي والزمني للأحداث، والتي قد تسعفها الألوان والملابس وتعدد “اللوكشين” -المكان- في الدراما التلفزيونية المصورة.

صفوة القول إن الدراما الإذاعية جنس فني له تقنياته وأدواته في التمثيل والكتابة والإخراج، وليس حالة أداء صوتي سريع، ثم إن له جمهوره وذواقيه، وسحره الذي جعل فنانين كبارا يحترفونه وحده، خصوصا في فن الدوبلاج الذي يختفي فيه الممثل بوجهه ويتجلى في عوالم وأحاسيس أخرى ومتشعبة حتى ليبدو فنا موازيا ومختلفا تماما عما نتصوره عنه.

12