المعارضة التونسية: لا شيء يتغير سوى المزيد من "النق"

كشف غياب الرئيس التونسي قيس سعيد لأيام معدودات عن الظهور أن رموز المعارضة لم يتغيروا، وأنهم مازالوا بنفس الخطاب والسلوك الذي يقوم على التهافت لإثارة التفاصيل الصغيرة والخوض في أعراض الناس وتغذية الشائعات.
يبدو أنه ليس من حق قيس سعيد أن يمرض، أو أن يذهب إلى مستشفى ويُجري تحاليل، أو أن يأخذ إجازة قصيرة لتخفيف الضغوط التي تعترضه يوميا بسبب ملفات داخلية وخارجية. المعارضة لا تسمح بأي غياب، وإلا عدته شغورا في رئاسة الجمهورية وعلى الجميع أن يتحرك لملئه، باستدعاء المؤسسة العسكرية والأمنية أو بالدعوة إلى تفعيل نصوص الدستور السابق طالما أن الدستور الجديد لم يترك مجالا لتأويله في هذه النقطة.
لا شيء تغير بين رموز المعارضة، وأغلبهم عاشوا فترة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وسلكوا نفس الطريق وصولا إلى مرحلة قيس سعيد. يفترض أن أي سياسي أو أي حزب مع تقدم العمر والوقت صار يمتلك وعيا أكبر ينعكس على أسلوبه في إدارة الخلاف مع خصومه سواء الذين في السلطة أو خارجها. لكن المعارضة التونسية بمختلف أطيافها وتوجهاتها ورموزها القديمة والجديدة لا تزال على العتبة الأولى للسياسة، حيث يغلب الصراخ على الفكرة والشعارات على المضامين.
بعد تجربة حكم استمرت لسنوات كان من المنتظر أن تبدأ حركة النهضة الإسلامية وحلفاؤها تقييم أدائهم والخروج بخلاصة تفسر سبب الفشل في إدارة الدولة وتنزيل الأفكار الكبرى التي كان الجميع ينادي بها ويطالب نظام بن علي وقبله الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بأن يطبقها.
◙ المعارضة لو أخلصت لقضيتها وقضايا الناس لكان سلاحُها النقدَ الموضوعي وليس “النق” الصوتي وفبركة الأخبار والتجسس على الحياة الشخصية
من أهم تلك الخلاصات التي يمكن تحصيلها من تجربة حكم ما بعد الثورة صعوبة تنزيل الأفكار الكبرى على أي تجربة في الحكم، وأن هناك مرحلة تسبق للتمهيد لتحويل تلك الأفكار إلى واقع، وهي قراءتها وتفكيكها والخروج منها ببرامج واقعية، فلا قيمة لشعار الإسلام هو الحل أو الاشتراكية هي البديل الثوري ولا القومية هي طريق المستقبل. لا قيمة لهذه المقولات وهي معلقة في السماء تذروها الرياح.
كان من المفترض أن يجلس أعضاء الجماعة الذين حكموا في السنوات الماضية مع بعضهم البعض ويفككوا تجربتهم ويتوصلوا إلى نتائج من بينها ضرورة الاشتغال على بدائل تنفع الناس وليس على أفكار وشعارات قديمة تنام في الكتب وفي أدراج المكتبات. قد لا يكون العيب في المخطوطات وإنما في من يعتقد أنها يمكن أن تتحرك وحدها مثل عصا موسى لتبهر العالم وتقيم العدل وتؤسس للبدائل.
وبدلا من هذه المراجعات التي ينتظرها الأنصار قبل الخصوم، عادت المعارضة إلى البيانات والشعارات وإلى تتبع الأخبار اليومية لتعلق عليها وفق منطق ردة الفعل وبُغْية الاستثمار السياسي الحيني الذي يمكن أن يرفع صاحبه في وقت قصير إلى أعلى ثم يطيح بها بسرعة كبيرة ويلقي به على الأرض فيصاب بالجروح والكدمات من كل ناحية.
وهذه هي صورة المعارضة خلال الأسبوع الماضي إلى غاية ظهور قيس سعيد في شريط فيديو ليرد عليهم اتهاماتهم ويبدد إشاعاتهم وأمانيهم في استعادة السلطة من دون أي مراجعات واقتراب من الناس ومعاينة أوضاعهم، وخاصة القطيعة مع الانتهازية التي طبعت إدارة المرحلة السابقة من حكمهم وتحويل الدولة إلى غنيمة وتبديد أموالها وإغراقها في الديون والهروب من التفاهم مع صندوق النقد الدولي لسنوات ما أوقع البلاد في المحنة الراهنة.
لقد كشف الأداء الإعلامي للمعارضة، سواء في بعض قنواتها أو على حسابات بعض قياداتها ونشطائها وجمهورها، أنها لم تستفد من السنوات العشر الأولى للثورة لتتغير وتكون أكثر عقلانية وهدوءا في الحكم على الخصوم.

اقرأ أيضا: الاتصال الرئاسي.. حلقة مفقودة في تونس
لقد ظهرت المعارضة في صورة مجموعات انتهازية لا تراعي إلًّا ولا ذمة في من تختلف معهم، ولأجل تسجيل النقاط ضد قيس سعيد لجأت إلى صنع الإشاعات وفبركة القصص وإيهام الناس بأن الرجل مريض بكل أمراض الدنيا، وأنه يتداوى في فرنسا، وأن الجهات الخارجية تتصارع على البديل، وأن “جبهة الخلاص” هي الطرف الوحيد الذي يتفاوض معه “الخارج” لتحضير المرحلة الجديدة.
والآن، وقد ظهر قيس سعيد، وبدد أحلام هؤلاء في تغيير افتراضي لرأس النظام في تونس، ماذا سيقولون لأنفسهم وللمحيطين بهم ولأنصارهم؟ كيف يمكن أن يفسروا أخلاقيا وسياسيا هذا السقوط المدوي الذي تعدى على خصوصيات الناس وحفر في حياتهم الخاصة وملفاتهم الصحية وزاد على ذلك بالفبركة والتشفي؟
ربما تنسى هذه المجموعات هذه القصة أو تقنع نفسها بأن الحملة على صحة قيس سعيد كانت تكتيكا مهما لضرب صورته لدى عامة الشعب. هذا وارد، لكن آثار هذا السلوك على المدى البعيد لا يمكن أن تُمحى من أذهان الناس الذين لا يقبلون وفق ما ورثوه من قيم وما تشربوه من أخلاق استهداف الحياة الخاصة للأفراد فما بالك حين يكون المستهدف رئيس الدولة، الذي تم انتخابه بنسبة عالية من التصويت.
بدلا من أسلوب الضرب تحت الحزام لتشويه صورة قيس سعيد لدى الناس، كان يمكن للمعارضة أن تقوم بتقييم أدائه في الملف الاقتصادي وتجربة حكومته ومدى استجابتها لمطالب الناس، ومقاربة ذلك عقلانيا من خلال قراءة الظروف الموضوعية المحيطة وإمكانيات الدولة المالية وفرص نجاحها. وقتها، ومع مرور الوقت ستكسب ثقة جمهورها وربما تجلب إليها جمهورا جديدا يساعدها في الانتخابات القادمة على تحسين نتائجها ومحو خيباتها في إدارة الدولة خلال الفترات الماضية.
الاختلاف هنا ليس على حق المعارضة في انتقاد أداء الرئيس سعيد وحكومته وحزامه السياسي الشعبوي، فهذا حق مشروع، ولكن حول استغلال فرصة الغياب المؤقت، أو ما أسماه رئيس الجمهورية الاثنين بـ”التعذر المؤقت”، لخوض حملة بأدوات غير أخلاقية من أجل استعجال تغيير الحكم.
◙ المعارضة لا تسمح بأي غياب، وإلا عدته شغورا في رئاسة الجمهورية وعلى الجميع أن يتحرك لملئه، باستدعاء المؤسسة العسكرية والأمنية أو بالدعوة إلى تفعيل نصوص الدستور السابق
ومن بين أبرز الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن الآن: هل فكرت هذه المعارضة في صورة تونس الخارجية على ضوء حملة التشويه والتخويف ضد قيس سعيد والإيهام بأنه مريض بشكل لا يسمح له بقيادة البلاد؟ هل فكرت في أن هذه الإشاعات ستزيد من تعقيد وضع تونس الخارجي في العلاقة بالحراك الخاص بمعادلة الحشد لدعم تونس ماليا مقابل دور أكثر فاعلية في مواجهة موجات اللاجئين؟
يتحرك المحيط الإقليمي لبحث سبل دعم تونس للخروج من أزمتها المالية الحادة، وهي أزمة في معظمها من مخلفات الحكومات السابقة، فيما المعارضة التونسية تقدم صورة تقوم على التشكيك والتخويف ما قد يجعل الدول التي تتحرك لأجل دعم البلاد ومساعدتها تتراجع وتنأى بنفسها عنا لفترة أخرى، فيوجه شق من التونسيين ووفق أجندات مهزوزة ضربة لمسار الإنقاذ الإقليمي لبلادهم.
من واجب المعارضة أن تغير أسلوبها وأداءها وتنظر إلى ما هو أبعد من صراعها مع قيس سعيد ومن قبله مع بن علي.
ويمكن لخطاب المعارضة التونسية أن يصبح مقبولا لو أنها أجرت نقدا ذاتيا حقيقيا لأدائها منذ الثورة إلى حين عزلها بعزل البرلمان السابق بسبب حالة الفوضى التي كانت تسوده والصراعات التي عطلت عمل المؤسسات الحكومية.
وبالنتيجة، فإن هذه المعارضة لو أخلصت لقضيتها وقضايا الناس، لكان سلاحُها النقدَ الموضوعي وليس “النق” الصوتي وفبركة الأخبار والتجسس على الحياة الشخصية.