السوري أصلان معمو فنان يخلق المستحيل في ورشة عمل مستديمة

كان أصلان معمو محظوظا بأن ولد في مدينة أغلب أبنائها من الفنانين، فاتبع نهجهم، ليكون هو الآخر اسما مهما بينهم، لكنه لم يحاول تكرار تجارب سابقة، بل تعلم منها واتخذ من ملامح مدينته عفرين الكثير الذي يمكنه من الاقتراب من اللوحة بكل حرية ليشكل على سطحها هواجسه وأفكاره وما تزخر به ذاكرته.
أن تكون من عفرين فالحال كأن تكون من عامودا، فأبناء هاتين المدينتين محظوظون على الدوام، لا يمكن أن تلد فيهما وتشرب من مائهما، وتتعفر بترابهما ولا تكون موهوبا، لا يمكن إلا أن تكون مبدعا، فقط الأمر يحتاج إلى القليل من التروي والبحث.
الجميع هنا خالق إما أن يكون شاعرا، أو كاتبا، أو صحافيا، أو موسيقيا أو مؤلفا أو عازفا أو مغنيا، أو فنانا تشكيليا، أو مخرجا مسرحيا أو سينمائيا. الجميع في عامودا وعفرين مبدعون حقيقيون، بأصابعهم، بأصواتهم، بأقلامهم، الجميع هنا يبحث وإن كان الزحام عاليا، الجميع هنا يخلق وله قدرة فائقة على الخلاص، فليس غريبا أن نحتار في التقاط الأسماء وما أكثرها. للجميع حق علينا أن نعيد لهم البعض ممّا لهم في ذمتنا، أتمنى أن يمنحنا الرب جرعة ثانية من الحياة علنا نعيد كل ديون هؤلاء ونخرج من هذه الحياة دون دين في ذمتنا.
هذه المرة، نتكلم عن تجربة الفنان التشكيلي أصلان معمو (1978)، وهو ابن عفرين وزيتونها الذي حوله ستتلوّن الأمنيات، وبه ستكتظ المدينة وريفها، بنهر جميل من الألوان التي تدفقت من مرسمه الحانوتي، المرسم الذي مرّت منه أسماء كثيرة، فبجهود شخصية استطاع معمو أن يخدم المدينة بكم هائل من الألوان التي زينت بيوتها وأزقتها بشهيقهم وزفيرهم.
ورغم العالم الفوضوي الذي كان ومازال يلف الأرض وأبناءها، ولنا أبناء الشرق حصة الأسد من تلك الفوضى التي حصدتنا وما تزال، أقول رغم تلك الفوضى الكبيرة إلا أن معمو بقي مؤمنا كفنان حقيقي ينتمي إلى الزيتون أصالة وشموخا وتحديا بأن الفنان يستطيع أن يخلق المستحيل، وفعلها معمو حين حوّل مرسمه الصغير في دكان مّا على الطريق إلى ما يشبه ورشة عمل مستديمة، إليها يلجأ أبناء عفرين لتنمية مواهبهم الفنية وإخراجها إلى النور ضمن معرض سنوي عنوانه “ألوان من عفرين” يخصصه لطلابه المتميزين.
هذا المناخ الحقيقي الذي خلقه الفنان معمو، وهذه المساحة التي لوّنها يرجعان إلى عشقه للريشة واللون، وإلى انتمائه للزيتون وما تركه الأقدمون من تراث وتاريخ، فهو يقدّم نفسه بمقولات معرفية لها خصوصيتها الجمالية، ولها أهميتها الحياتية بوصفها نتاجا لتحولات كبيرة الأثر يشتغل عليها الفنان التشكيلي كشكل من أشكال الخروج من اللوحة، أو لنقل شكلا من أشكال جر الفراغ وإن بحذر إلى اللعبة الفنية، فهو يحمل إلى جانب ذلك إرثا من حضارة كبيرة تنبض في داخله، وهذا ما يدفع به إلى زيادة طموحاته وآماله في الاقتراب من اللوحة وكأنها تحمل كل الإجابات لتلك الأسئلة المطروحة في داخله على شكل دوائر لعوالم من الدهشة يرافقها الخوف الفظيع من الزمن وأزمته.
ومعمو لا ينهي شيئا أو ليس لديه نقاط يضعها في نهاية جملته أي نهاية مقولاته الفنية، فالأمر هنا متعلق به كإنسان أولا في داخله سجين ينام منذ الأزل يطالب بالحرية والإفراج عنه، ثم كفنان له ظله الذي لا يتركه حتى في العتمة، ظل يطالبه بعدم الاستسلام للصقيع مهما كان قاتلا، ظل يعزف له السر اللانهائي عبر شيفرات مفتوحة حتى يفرغها كاملة في لوحته، دون أيّ إحباط.
وهنا ستنكشف له ولنا تلك العناصر المبهمة على نحو حلم مرتبط ارتباطا عميقا بمعاناة الإنسان التي هي معاناته، برموزه وأشكاله، بألوانه الصاخبة والمفعمة بالقلق والانفعال، وبتوجهه إلى دواخله وما يعتمل فيها من هواجس وأحاسيس حاملة رائحة تراب مازالت تعبق فيه/به وفي/بالمكان، رائحة فاحت حتى كسرت الحدود وخرجت كشاهدة حية على الآلام المقدسة وبأن الإنسان هو الأهم، فما فائدة الساحات ما لم تضج بناسها.
من أجل ذلك يستعين معمو بذاكرته كجزء مهم وفاعل في ولادة لوحته، تلك اللوحة التي لن ينتهي منها ولا من تدوين مقولاته عليها، ولهذا لا يضع النقطة أبدا في نهايتها مهما كان صهيل أحصنته موجعا، فهو يرسم أبجدية ذلك الوجع على خطواته بزخمها وعذاباتها، بإشاراتها ودلالاتها، بوجوهها وتفاصيلها علّ ذلك يمسح سيل التعب من روحه بل ومن جسده أيضا، فهو الحافل بالقلق وبالمكان المرهق حتى كادت الحياة تسقط منه، فكيف ينبض الفنان بالانتماء وكل ما فيه ينبض بالضياع.
هذا حال أصلان معمو المسافر أبدا في المكان المشبع بالغياب حتى باتت مقاعد انتظاره وجها آخر لذلك الضياع.
بعيدا عن نمذجة ملامح تدوينات أصلان معمو اللونية، وبعيدا عن مرارة تخطيطاته المختلطة والمختلفة فهو يكتظ بكمّ هائل من الألم، بأرتال من أشواك الشجن وهي تتلاطم على فضاءاته، فيتناول عناصر لها قدرة كبيرة على الاشتعال، حتى يوقظ ويوقد الروح فيها وهنا كان لا بد من الانحياز لجماليات تعبيرية تشي بالانفلات والتماهي، تشي بما يشبه ألم اللوحة وتفاصيلها، وكأنها في حالة مخاض طويلة ستعتريها مؤشرات لنوافذ مفتوحة على فراغات ظليلة وما يسبح فيها من نماذج لأناس يرفضون الحياد لرؤيتها.
معمو يدغم السهول بالجبال، الأزرق بالأصفر، المشهد الخفي بالسرمدي. وهو يوزع الضوء مع الضباب، يطارد دفق الأحمر الساخن بقدرة هائلة، وبأصابع مبللة بالعشق المباح، حتى ترتخي اللوحة تماما وتستسلم لحزن الصهيل وتعابيره، لتجاعيده حين يلفح به صفير الريح بشفراته الحادة وبدفقة غباره، فأفق الممرات عنده مشتعلة بصرخات الصمت حين تثور، وبسيمفونية التحولات السريعة وكأنها مبتكرة خصيصا لها، وكأنها المعنية بالبحث عن جديد، وكأنها السر الذي إليه يمضي الفنان ونحن معه دون أن يكون له ولنا حول أو قوة.
وباختصار فهو يعيد للزمن نحيبه الطويل، النحيب الذي لا يغادر مكان إقامته، بل يستأجر سقفا مفتوحا يظلله ويظللنا على امتداد دقات الساعة وعقاربها، وهكذا تمضي به الساعة ونحن معه حتى النزف الأخير.
