"اليوم جمعة وغدا خميس" مساءلة روائية لتاريخ أبناء إبراهيم المسكوت عنه

التونسي سفيان رجب: المعركة مع المؤسسة الدينية وليست مع الدين.
الجمعة 2023/02/24
روايتي لا تدخل في باب الصراع القومي

يمكن للرواية أن تفكك التاريخ وأن تطرح القضايا الكبرى بشكل أكثر تأثيرا من التأريخ أو غيره، وفي هذا الصدد قدم عدد من الروائيين العرب أعمالا تتناول شخصيات يهودية انساق أغلبها إما في الصور السلبية أو السطحية وخير آخر الانتصار لمظلومية ما أو حالة واهمة من التعايش، ولكنّ قليلين من اختاروا أن يسردوا الحياة المشتركة كما هي لفهم خللها وأسباب صراعاتها التي لا تنتهي.

قدم مركز الفنون الدرامية والركحية بمحافظة سليانة (شمال غرب تونس) حلقة جديدة من تظاهرة "أنا كاتب" التي كرسها لنقاش آخر وأهم الإصدارات التونسية. وخصصت الحلقة الجديدة لرواية "اليوم جمعة وغدا خميس" للشاعر والكاتب التونسي سفيان رجب، والتي ناقشها الحضور، مثيرين العديد من الأسئلة حول المناطق الشائكة التي تقتحمها الرواية.

تقتحم رواية "اليوم جمعة وغدا خميس” لسفيان رجب عوالم مسكوتا عنها في التاريخ التونسي، هي ليست برواية تأريخ ولكنها تؤرخ جزئيا لتاريخ مدينة سوسة والتواجد اليهودي فيها.

ترصد الرواية من خلال عائلة المالح جزءا منسيا من التاريخ التونسي، ولكن هدفها الأساسي هو نقد المؤسسة الدينية وتفكيك منظوماتها انطلاقا من النوحيدية (نسبة إلى النبي نوح)، ومن اليهودية تحديدا.

من خلال بطلي العمل إيريلا وموسى، الأولى مخرجة مسرحية والثاني ابن عمها المتدين، يحاول رجب إعادة التأسيس لخطاب ينبذ الانغلاق الديني ويرسخ التعايش ويدعو إلى المحبة وانفتاح الإنسان على ذاته والآخر ومحيطه ككل، وذلك من خلال محاولة خلق سردية دينية مختلفة تبدأ من كهوف قمران ومن نبيّة امرأة كتبت ما سمي "كتاب الأصل"، كتاب مدون بألوان قوس قزح، يدعو في جوهره إلى محو الحدود الضيقة التي حولت الأديان من نوع من الفن والروحانية  إلى قيود وأقنعة وتعاليم تحركها السياسة.

سردية جديدة

لا يقدم رجب سردية عن مظلومية اليهود أو التسامح الكاذب الذي يدعيه المسلمون تجاه اليهود، وإنما يحكي الوقائع كما هي
رجب لا يقدم سردية عن مظلومية اليهود أو التسامح الكاذب الذي يدعيه المسلمون تجاه اليهود، وإنما يحكي الوقائع كما هي

لا يقدم رجب سردية عن مظلومية اليهود أو التسامح الكاذب الذي يدعيه المسلمون تجاه اليهود، وإنما يحكي الوقائع كما هي، في جانب التعايش الحاصل فعلا، والكراهية الواقعة فعلا بين الطرفين، مثلا يجسد كراهية إليورا للعرب والمسلمين، ويعيد ذلك إلى جهلها وأميتها، أو مثلا يذكر منع النساء المسلمات أطفالهن من اللعب مع صموئيل اليهودي، عدا امرأة واحدة منهن كانت تدافع عنه بقوة.

إذن نحن بصدد قراءة متجردة من الأيديولوجيا أو الانفعال، قراءة تعود إلى كشف الحقائق والمناداة بنزع الأغشية عن الأعين، ومناداة بضرورة عودة الإنسان إلى ذاته وعقله ومنهما يمكن التأسيس لواقع أرقى من المنظومة الدينية الحالية، وذلك عبر روح الفن، كما يظهر من عمل إيريلا عبر "فيلمسرحيتها" التي تدمج السينما بالمسرح “محاولة لترميم مركب نوح".

الرواية إذن ترميم لذات الإنسان الخالية من الحدود والتقسيمات والعنصريات والعرقيات، ذات تتصالح مع ماضيها ومع محيطها وتجعل من القلب النيّر والروح المحبة والعقل المنفتح المعايير لحياة إنسانية أقل بشاعة.

قال رجب "طوفان نوح وقوس قزح الذي تلاه هو ما انطلقت منه إيريلا، وذاك هو الباب الوحيد الذي يمكن الدخول منه إلى اليهودية، ديانة عرقية، وكل من يدخل إليها يبقى درجة ثانية عكس الإسلام مثلا. وتقريبا كل الديانات الإبراهيمية أخذت من منحى واحد، حتى فكرة إبراهيم بالمعنى البابلي الأب الرحيم، وتحولت مع النبطية إلى إبراهيم. ديانات أبوية تقوم على الذكورة والمرأة هي الوسيلة فيها".

وأضاف "في هذه الرواية حاولت أن تكون إيريلا ممثلة للثورة النسوية، ليس بالمعنى القديم بمعنى الوثنية أو الأمازونيات بمعنى الحكم النسوي، ورغم ذلك أتجاوز مسألة التجنيس ذكرا وأنثى. أفكار كنت مسكونا بها، لكن الرواية تتطلب أحداثا. لا يمكن الحديث عن الأفكار مجردة، أو رؤوس أقلام، يجب أن يكون هناك بناء كامل للعمل الروائي". وتابع "أعيش في سوسة تقريبا، نهج الأغالبة الذي تحدثت عنه في الرواية وبوجعفر وغيرهما أماكن عايشتها يوميا، قبل أن أكتبها".

أما عن مسألة العجائبي والفانتازيا التي انتهت فيها الرواية فهي، كما بين رجب، تذكير للقراء بأنهم أمام عمل أدبي، فيه جزء من التأريخ، لكنه ليس عملا توثيقيا أو عملا تأريخيا، رغم أن الرواية في جزء هام منها اعتنت بمسألة التوثيق حتى تخدم النسق ورؤية الفكرة في حد ذاتها.

وحول اتجاهه إلى نقد المنظومة الدينية من خلال اليهودية، حيث المسلمون مثلا يقبلون النقد ويفهمونه أيضا إذا كان موجها إلى غيرهم، قال رجب “فولتير في حديثه عن النبي محمد كان يقصد المسيح، وذكره لأنه يخاف من الكنيسة. من الصعب تشريح منظومة الدينية. ومن ناحية أخرى اعتبر أن الصديقيّين في اليهودية يكادون يكونون المسلمين. وأعتبر أن المسلمين اليوم يمكن تسميتهم الصديقيين الجدد فيهم جزء كبير يرفض الآخر. نوع من الانغلاق حيث إما أن يقبل الآخر فكرك أو يكون مارقا أو كافرا".

اشتغال على الفكرة

الرواية تجسد فكرة المسخ بشكل مختلف
الرواية تجسد فكرة المسخ بشكل مختلف

وشدد على أن الرواية تجسد فكرة المسخ بشكل مختلف، واعتبر رجب أن فكرة المسخ موجودة عند المسلمين أيضا الذين ينظرون مثلا إلى الكافر الممسوخ، اليهود يؤمنون بفكرة المسخ إيمانا راسخا، ويؤمنون بأن من يخرج عن اليهودية يمسخ حيوانا مثلا، والمسخ نوع من التهيئة لتصفية الممسوخ ماديا أو معنويا، وحتى فكرة فرانز كافكا في روايته "المسخ" ليست فكرة فانتازية.

وقال "المعركة مع المؤسسة الدينية وليست مع الدين، لأن الدين انطلق من أفكار أولى، مثلا تحدثت عن كهوف قمران للهاربين من أورشليم وكانوا يحلمون بإنسان جديد. فكرة الدين كانت للإصلاح لكن المؤسسة حولتها إلى نوع من التدجين، تدجين الإنسان الذي أصبحت رقيبة عليه، ويصبح مجبرا على لبس قناع للامتثال للجماعة".

ويبيّن رجب أنه اشتغل داخل الرموز الروائية لتحقيق فكرته في نقد المؤسسة الدينية، وصدّر كل مقطع من الرواية – تقريبا خمسة وخمسين تصديرا - تصديرات بالتوراة والإنجيل والقرآن، وحتى بـ"كتاب الأصل" الذي أرادت إيريلا نشره عبر موسى، إيهاما للقارئ بأنه جزء من السردية اللاهوتية لكنها سردية جديدة.

وتابع "في النهاية اشتغلت على الشخصيات، لكن الاشتغال الحقيقي كان على الأفكار بشكل أكثر دقة من اشتغالاتي في روايتي السابقتين ‘القرد الليبرالي’ و’مصنع الأحذية الأميركية'".

واستحضر ما ذكره حول الأسد المربوط إلى النخلة، الذي اختتم الرواية بطريقة تداخل فيها العجائبي بالواقعي، وهذا الأسد كما ذكر الكاتب “موجود حقيقة في المدينة العتيقة وتثار حوله العديد من الحكايات. وشخصية ميمون الذي يتخيل أنه هو الذي ربط ذلك الأسد، إحالة إلى رمز توراتي هو أسد يهوذا الذي يؤمن به اليهود وهو من رمزياتهم، وأقحمت الأسد في مسألة التحولات أو المسخ للخارجين عن الدين".

وأضاف "أما موسى الثاني وهو موسى ابن ميمون الذي تأثر بابن رشد ولكننا ننسى الفكرة المبنية عند اليهود عن الأرض الموعودة، مثلا موسى ابن ميمون دفن في فلسطين، وهذا ما يفسر التشابك التاريخي والرصيد المشترك واسع بين اليهود والعرب، في اللغة، وغيرها”، ويحتاج في رأي رجب إلى “كتب أخرى، وهذا عمل روائي لا يمكنه الإجابة عن كل الأسئلة، وإلا سقط في نوع من الاحتواء".

◙ الكاتب اشتغل على الشخصيات لكن الاشتغال الحقيقي كان على الأفكار بشكل أكثر دقة من اشتغالاته السابقة

أيضا لفت رجب إلى أن اليهود في الواقع لم يدخلوا المدينة كسكان بل كتجار، لكنه في روايته حولهم إلى سكان من خلال عائلة المالح، هناك أيضا ذكر للصدامات بين المسلمين واليهود وطرح للكراهية المشتركة بينهما. رغم أن علاقة اليهود والمسلمين علاقة كراهية وسخرية في جوانب كثيرة منها، فإنها لم تصل سابقا إلى حد الإبادة كما كان الشأن في المسيحية التي دعت إلى إبادة اليهود. لذلك هرب اليهود أو التجأوا إلى المسلمين.

وذكر الكاتب فكرة أن اليهود كانوا مساهمين في المجازر التي حدثت لهم لأنهم يلعبون دور الضحية، مثلا في سرديتهم الأولى ضد فرعون يتحقق فيهم أنهم شخصية ضد جلاد، بمعنى هناك سردية تخلق جلادا وهناك سردية تخلق ضحية، مثل السردية اليهودية. وهذا ضد فكرة المعتقد، أي يخلق العنصرية والحدود مع الآخر.

وواصل "من خلال أفكار إيريلا نقدت هذا الواقع، إذ تتصور أفكارا جديدة وعالما جديدا. أتصور أن المهم هو المعرفة. فجهل الآخر يصور نوعا من العداء تجاه هذا الآخر ويصور منطقة من الغموض. روايتي محاولة لفهم الآخر والاقتراب منه. طبعا الآخر ليس ملاكا، ولا منزها عن الكره المتبادل. وفي النهاية روايتي لا تدخل في باب الصراع القومي أو الصدام السياسي".

13