تونس والسعودية تجربتان رائدتان في الاستثمار في الثقافة

نوادي الإبداع التونسية ومشروع “أبدع” السعودي يحاولان تحويل الثقافة إلى صناعة.
السبت 2023/01/28
الثقافة استثمار حقيقي

قطاع الثقافة يمكنه أن يوفر مساحة واسعة للاستثمار فيه، استثمار يتجاوز المردود المادي إلى التأثير الحضاري العميق، لذا تولي الكثير من الدول اهتماما واسعا بالصناعات الثقافية، بينما تظل الأخيرة في الوطن العربي بعيدة عن المأمول عدا بعض التجارب، فيها المتعثر وفيها المنطلق بقوة.

سيطرة العقلية الاتكالية في تونس وباقي البلاد العربية لم تعد تشمل مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وحدها، وفي نسقها الكلاسيكي المعتاد والمتوقع، بل شملت الإنتاج الفكري والفني عبر آليات شتى من الاعتداءات المكشوفة والمفضوحة.

هي على كل حال، واحدة من آليات الفساد الذي لا يتجزأ، لكن خطورتها تكمن في أنها طالت المشهد الثقافي وأصبحت جزءا منه إن لم نقل إنها تصنعه وتروج له ضمن مافيا خطيرة ما تنفك تكبر وتتشعب حتى صارت هي القاعدة، وما عداها استثناء.

الاستثمار في الثقافة

المشكلة أن الرداءة لا تكتفي بالعيش وحدها منعزلة عن المشهد العام، وإنما تشرك – أو تحاول أن تشرك – الجميع في إعادة إنتاج ذاتها حتى تنتعش وتسود، فتطرد العملة الجيدة، ويتساوى الجميع في “برزخها”، وتتساوى عندئذ، كل الأقلام والأصوات والإنتاجات المحسوبة على الفكر والثقافة.

الأمر لا يُستغرب حينما ندرك أن قاطرة الفساد السياسي والمالي تعمل دائما على جر الثقافي خلفها حتى تكتسب مشروعيتها بالتضخم والتقادم.

وبالفعل، تمكن الفساد من “رص صفوف الطوابير الثقافية” وجندها لخدمته، فبات النقي والأصيل شاذا يُحفظ ولا يقاس عليه، في انتظار أن يندثر بصفة كلية.

وحينها، نلجأ إلى البكاء عليه تحت مسمى “ذكريات الزمن الجميل” كما نفعل الآن ونحن نمشي ونبكي في جنازة الذي قتلناه من الزمن الجميل.

إننا نحول كل الألوان الزاهية البهيجة فينا إلى ما سوف نحنّ إليه يوما، وتنعته الأجيال القادمة بـ”الأبيض والأسود”. هذا ما آلت إليه الثقافة في البلاد العربية حينما أسلمت أمرها إلى سلطة الفساد التي تحترف صناعة القبح بالضرورة، في كل زمان ومكان.

"نوادي الإبداع" مشروع تونسي يسعى للاستثمار في الحقوق الفكرية بتشجيع المزيد من الإبداع في البلاد

أصبح اليوم الحديث عن الاستثمار في الفكر والثقافة والفنون، وإدراجها ضمن التنمية الاقتصادية والبشرية، أشبه بعظة تتلى على الثعالب في مزرعة للدجاج. لا لأن توجهات الدولة غير صائبة، وإنما لا تجد من ينصت إليها، ومن أنصت بانتباه، فذلك لأنه يفكر في كيفية استثمار ذلك لنفسه.

وفي هذا الإطار، أكدت وزيرة الثقافة التونسية حياة قطاط القرمازي أمام جمع من رؤساء مديريات الثقافة في المحافظات التونسية، حرص الوزارة على تطوير ميدان الحقوق الفكرية والفنية في مختلف المجالات الإبداعية، مع إرساء التوازن المطلوب بين مصالح المؤلفين في حماية أعمالهم الفكرية والفنية والعلمية من ناحية، وحق مستعملي المصنفات في النفاذ من ناحية أخرى.

وتقصد الوزيرة التونسية من وراء ذلك بأن يصبح ذلك جاذبا للاستثمار الخاص بغاية إرساء صناعة ثقافية إبداعية تكون أكثر حيوية وقدرة على المساهمة في عملية التنمية بكافة أبعادها.

هذا المشروع وقعت تسميته في تونس بـ”نوادي الإبداع”، ويهدف من وراء ذلك إلى الاستثمار في الحقوق الفكرية بتشجيع المزيد من الإبداع، ولكن مَن من الذين سيأخذون هذا المشروع على محمل الجد، ولا يحول “نوادي الإبداع” هذه إلى “دكاكين سمسرة” وبؤر سرقة واستثمار رخيص ومشبوه في إبداعات الموهوبين؟

هل حقا سيأخذ لصوص الثقافة هذا المقترح على محمل الجد، وبمنتهى النزاهة والأمانة والروح الوطنية أم سيلتفون عليه كالعادة ويحولونه إلى بازار ثقافي في المهرجانات والملتقيات التي يسيطر عليها الوسطاء والمضاربون وسط غياب القوانين الرادعة؟

مبدعون كثيرون تنازلوا عن حقوقهم مقابل بعض الملاليم أمام قسوة الواقع وهشاشة وضعياتهم الحقوقية والنقابية

وحتى وإن وجدت هذه القوانين ولو بصفة ضبابية ومحدودة كما هو الحال في الدولة التونسية التي تشكر عليها مقارنة ببلدان عربية كثيرة، فهل نضمن استبسال المبدعين أنفسهم في الدفاع عن حقوقهم أمام إغراءات المال؟

مبدعون كثيرون تنازلوا عن حقوقهم مقابل بعض الملاليم أمام قسوة الواقع وهشاشة وضعياتهم الحقوقية والنقابية.

هذه حقيقة لا ينكرها إلا ناكر، ذلك أن قاطرة الفساد الذي يقوده المال تجر خلفها جميع العربات، ولا توقفها إلا السياسات الثقافية الصارمة، والتي تحميها القوانين الرادعة مدعومة بوعي قوي وحاد إلى حد التضحية.

ستؤول الأمور إلى حالة من تدني الذائقة العامة وتزدهر صناعة القبح مستغلة القوانين التي جاءت في الأصل، للحد من السوقية والابتذال.

تونس والسعودية

"أبدع" مبادرة سعودية تفتح باب الشراكة مع القطاع الخاص لتنمية القطاع الثقافي وتحويله إلى صناعة متكاملة

“لا يجرّب مجرّبا إلا من كان عقله مخرّبا” كما يقال، لذا نحن نقف عند كل القوانين والتشريعات “التقدمية” التي سنت في صالح الثقافة والمثقفين، والنتيجة هي المزيد من التدني والابتذال بسبب جلافة ووحشية رأس المال المحلي والعربي، والذي يفتقد في غالبيته إلى الذائقة السليمة و”الحياء”.

إن أودعت جمعيات حقوق المؤلف مصنفا موسيقيا يحترم الحد الأدنى من الذائقة العامة ثم وضعته في يدي مستثمر مقابل بعض المليمات، تجده غدا على مسارح أشبه بالكباريهات، وأمام جمهور من “الهشك بشك” كما يقولون.

يحدث هذا، وللأسف الشديد في بلد مثل تونس، رغم أنه قطع مسافات لا بأس بها من التنمية الثقافية بفضل رجال وطنيين بداية الاستقلال، ولم يعودوا كثيرين بسبب البيروقراطية وتفشي الفساد.

 أما في بلد مثل السعودية تتولى المبادرة فيه قيادة شابة ومتحمسة مدعومة بموارد ضخمة ومتنوعة، فإن وزارة الثقافة فيه تسعى للتعريف بمنصة التراخيص والتصاريح الثقافية “أبدع” التي تفتح باب الشراكة مع القطاع الخاص وتقدم الدعم والتمكين للنشاط الثقافي في المملكة.

وما يزيد الثقة في المستقبل الثقافي للمملكة أن خدمة إصدار التراخيص والتصاريح الثقافية تتيح للمنشآت والممارسين والموهوبين السعوديين والمقيمين، تمكينهم من ممارسة الأنشطة الثقافية الداعمة والإسهام في نمو القطاع والرفع من كفاءته وجاذبيته الاستثمارية، بما يجعل من الثقافة عاملا مؤثرا في الاقتصاد الوطني كما يقول خبراء اقتصاديون.

هذا هو الفرق بين بلد أمسك بطرف الخيط ثم أضاعه بسبب التراخي والفساد مثل تونس، وبلد عقد العزم على الإقلاع بفضل قرار سياسي حاسم وجريء مثل السعودية، التي بدأ يلتجئ إليها الكثير من المستثمرين والمبدعين في الشأن الثقافي وتبشر بربيع ثقافي عربي يعوّض عن هنّات وقعت فيها بلدان مثل تونس ومصر وسوريا والعراق.

12