الشفافية وحدها تضمن استمرار مستشفى سرطان الأطفال في مصر

قامت الدنيا ولم تقعد على شبكات التواصل الاجتماعي في مصر بعد انتشار معلومات نقلا عن مسؤولين في مستشفى سرطان الأطفال المعروف بـ”57357″، عن اقتراب غلق أبوابه في ظل شح الموارد وانخفاض التبرعات لنحو 80 في المئة، وخلال أشهر قليلة وربما أسابيع لن يكون للمستشفى وجود في مصر.
تسببت هذه المعلومات في صدمة لعدد كبير من المصريين، بحكم أن المستشفى يُعالج الأطفال مرضى السرطان مجانا، ويمتلك إمكانيات طبية عالية، فقد قام على تبرعات الناس دون أن يكون للحكومة دور في ذلك، ما طرح تساؤلات كثيرة ومشروعة عن الأسباب التي قد تقوده إلى غلق أبوابه، ولماذا انخفضت التبرعات بصورة كبيرة.
معروف عن المصريين أنهم شعب لديه فائض من التكافل الاجتماعي، بغض النظر عن توافر القدرة المالية عند الأشخاص من عدمه، فقد يتبرع فرد بجنيه واحد، المهم أن يُسهم في إنقاذ حياة مريض، أو مساعدة محتاج، أو المشاركة في استمرار تقديم خدمة طبية للبسطاء، ولو كان المتبرع نفسه فقيرا.
انسحاب المتبرعين
الحملات الصحافية التي قادها كتاب ومثقفون لهم مصداقية ونزاهة وغيرة وطنية تسببت في انسحاب الكثير من المتبرعين لمستشفى سرطان الأطفال
يصعب فصل انسحاب الكثير من المتبرعين لمستشفى سرطان الأطفال عن الحملات الصحافية التي قادها كتاب ومثقفون لهم مصداقية ونزاهة وغيرة وطنية، على رأسهم الكاتب والسيناريست الراحل وحيد حامد، والذي خاض معركة شرسة مع إدارة المستشفى، وصل صداها إلى نيابة أمن الدولة العليا، جراء ما كشفه من فساد وإهدار لأموال التبرعات، وانتظر المتابعون نتيجة التحقيقات، لكنها لم تعلن بعد.
رحل الكاتب وحيد حامد في يناير من العام الماضي، ونجح في تنبيه المصريين الذين تم تخديرهم لسنوات طويلة بإعلانات التبرعات التي كانت تنتشر في مختلف وسائل الإعلام، وتتبع مستشفى 57357، بعدما كشف بالوثائق في حملته الصحافية بجريدة “المصري اليوم” عام 2018، كيف أن هذا الصرح الطبي يئن من الفساد والتلاعب بأموال التبرعات التي وصلت آنذاك إلى ما يقرب من مليار جنيه سنويا.
وقتها فنّد حامد، بالأرقام، كيف أن إدارة المستشفى تتحصل على مبالغ مالية باهظة كمكافآت ورواتب من أموال التبرعات التي يدفعها المصريون استجابة للحملات المنتشرة في الإعلام، وتطالب الناس بإنقاذ حياة الأطفال مرضى السرطان، وبلغت الصدمة مما كتبه الراحل أن إدارة المستشفى تنفق على الرواتب أكثر مما تخصصه لعلاج الأطفال، وتدفع للإعلانات الملايين من الجنيهات من أموال التبرعات أيضا.
كانت المفاجأة التي تم الكشف عنها تباعا من حملات صحافية موازية لكتابات حامد أن عدد أسرّة مستشفى الأطفال لا يتجاوز 300 سرير فقط، بفرعها الرئيسي في القاهرة، وفرعها الثاني في مدينة طنطا في شمال القاهرة، مع أنه يتم إنفاق الملايين من الجنيهات على رواتب الموظفين والأطباء ومكافآت إدارة المستشفى، بما يفوق ما يتم تخصيصه لعلاج الأطفال المرضى، وهو ما نشرته صحيفة “فيتو” المستقلة بقلم الكاتب أسامة داوود عام 2018.
مخالفات وحملات
توقع الكثيرون أن تتحرك الحكومة والأجهزة الرقابية للتحقيق في الأمر إعلاء لمبدأ الشفافية، وطمأنة المتبرعين على حماية أموالهم، لكن بعد موجة من التصعيد بين أصحاب الحملات الصحافية التي تحدثت عن مخالفات وفساد وبين إدارة المستشفى تاهت الحقيقة بعد أن أعلنت وزارة التضامن الاجتماعي التي يتبعها المستشفى ضمنيا، بحكم أنها مؤسسة أهلية تابعة للوزارة، عدم وجود شبهات فساد، وخرج بعدها حامد ليقول “لا يمكن أن تحقق الوزارة مع الوزارة، أو تدين نفسها”.
أمام الحملة الإلكترونية الواسعة من إعلاميين وفنانين ومثقفين لحث المصريين على سرعة التبرع للمستشفى بعد أنباء تعرضها لأزمة مالية طاحنة، أعاد بعض الذين كانوا يداومون على التبرع نشر أجزاء من الحملات الصحافية التي أثيرت ولم يتم التحقيق فيها من جهات موثوق بها، مثل هيئة الرقابة الإدارية، أو الجهاز المركزي للمحاسبات، أو حتى تدخلت مؤسستا الرئاسة ومجلس الوزراء لتوضيح الحقيقة.
رحل حامد، لكن رواسب ما نشره لا تزال حاضرة بقوة على شبكة الإنترنت بعدما تم تسويقها لتبرير دوافع الغالبية في رفض التبرع للمستشفى على نفس الوتيرة السابقة، وسط مطالبات واسعة بأن تتدخل الدولة بمؤسساتها الموثوق بها، لإنقاذ هذا الصرح الطبي، وتحقق في المخالفات المالية وتحاسب المتورطين، وتتعهد السلطة بحماية أموال المتبرعين.
ما أثار استياء الكثيرين أن إدارة المستشفى التي طالما كانت متهمة بارتكاب مخالفات مالية باقية في مواقعها، وتدير زمام الأمور، في تحد صارخ لإرادة الناس والمتبرعين، وكانت النتيجة وصول الأوضاع المالية إلى حد التدهور، والمعضلة الأكبر أن الحكومة صامتة لا ترغب في التدخل كأنها تحاول إبعاد نفسها عن الظهور في المشهد كي لا يُفهم الأمر من جانب البعض أنها سوف تستحوذ على المستشفى وأمواله.
الحلول سهلة ولكنها غائبة
الحكومة المصرية صامتة ولا ترغب في التدخل، كأنها تحاول إبعاد نفسها عن الظهور في المشهد كي لا يُفهم الأمر من جانب البعض أنها سوف تستحوذ على المستشفى وأمواله
يمكن اختصار أزمة مستشفى 57357 في كونها مثل أيّ مشكلة كبرى تطفو على السطح وتصبح حديث الرأي العام ولا يتم علاجها بحكمة وعقلانية، مع أن الحلول سهلة وبسيطة، لكنّ هناك غيابا واضحا للحد الأدنى من الشفافية والثقة بين الناس وأيّ مؤسسة تثار حولها شبهات، سواء أكانت حكومية أو أهلية، فالناس لا يبحثون عن تحقيق معجزات، بل يبحثون فقط عن الحقيقة ليكونوا مرتاحين وهم يتعاملون مع الكيان.
لا يمانع أغلب الذين يتعاملون أو كانوا يتبرعون للمستشفى في الاستمرار على نفس المنوال، شريطة أن تكون لديهم ضمانات من مؤسسات نزيهة ولها مصداقية بأن أموالهم لن تذهب هباء أو يتم استغلالها في غير أغراضها، فليس منطقيا أن يدفع رب الأسرة البسيطة أو المتوسطة من قوت أولاده ليسهم في علاج طفل مريض ويفاجأ بأن أمواله ذهبت إلى خزانة قناة فضائية ضمن ما يخصصه المستشفى لأموال الإعلانات.
في المقابل، تعاملت إدارة المستشفى مع كل انتقادات تشير ولو بالتلميح إلى شبهة وجود مخالفات على أنها تنطوي على مصالح شخصية، مع أن هدف من ينتقدون أبعد من ذلك، وهو عدم فقدان ثقة المصريين في هذا الصرح الطبي، حيث يكفي أن المستشفى يعمل على تخفيف آلام الآلاف من الأطفال.
أمام تفاقم الجدل دون تحرك رسمي تحطم جدار الشفافية بين الشارع ومستشفى علاج سرطان الأطفال لزيادة الشعور بوجود شبهات تضارب في المصالح، وغياب كل معايير الرقابة، وبدأ الناس يتجهون إلى جهات ومؤسسات أخرى لها مصداقية في جمع التبرعات وبينها مشيخة الأزهر التي تحتضن بيت الزكاة والصدقات ويشرف عليه شيخ الأزهر شخصيا، بحكم الثقة التي يتمتع بها عند غالبية المواطنين.
وإذا كانت الفئة الأكثر تبرعا تتعامل بالمثل الشعبي “ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع” فنسبة كثيرة من هؤلاء صارموا يمتنعون عن استقطاع جزء من دخلهم لتوجيهه إلى كيان طبي أثيرت حوله العديد من الشبهات ولم يتم البت فيها، كما أن الناس في مصر صاروا أكثر امتعاضا من كثرة الإعلانات التي تبتز الشارع، وتتاجر بظروف المرضى من الأطفال، وأصبحت هناك حالة عناد وردة فعل عكسية.
تحطّم جدار الشفافية جعل الناس يتجهون إلى جهات ومؤسسات أخرى لها مصداقية في جمع التبرعات وبينها مشيخة الأزهر التي تحتضن بيت الزكاة والصدقات
يسهم البسطاء ومتوسطو الدخل في مصر بالنسبة الأكبر من التبرعات الخاصة بمستشفى سرطان الأطفال، وهؤلاء تأثرت تبرعاتهم بفعل الأزمات الاقتصادية المركبة التي طالت عموم المصريين، ابتداء من جائحة كورونا وتبعاتها، مرورا بالحرب الروسية – الأوكرانية وانعكاساتها على الاقتصاد، وانتهاء بغلاء الأسعار وصعوبات المعيشة وارتفاع منسوب الفقر، وكل ذلك أدى إلى تراجع التبرعات.
معضلة المستشفى أنه تعامل مع الأزمة المالية بطريقة كرست ابتزاز القائمين عليه للناس واللعب على مشاعرهم، فلم يخرج مسؤول كبير من إدارته للإفصاح عن طبيعة المشكلة بالضبط والأسباب التي أوصلت هذا الصرح الطبي إلى هذه الكارثة.
ابتدع المسؤولون عنه وسيلة دعائية جديدة بنشر شائعة غلقها لإجبار الناس على التبرع، وكأن الشارع هو المتهم الأساسي، فإما أن يداوم على دفع الأموال أو لن يكون في مصر مستشفى اسمه 57357 يعالج سرطان الأطفال بالمجان.
تسربت أنباء، غير معلوم مصدرها، على شبكات التواصل الاجتماعي، تفيد بتبرع اللاعب المصري محمد صلاح، نجم ليفربول الإنجليزي بمبلغ ثلاثة ملايين دولار للمستشفى، ثم خرج مسؤولون بها لنفي هذه الأنباء، وقالوا إنه “لم يتبرع حتى الآن”، وبدا الأمر كأنه ابتزاز مباشر لصلاح بأن يكون شريكا في حل الأزمة المالية، وهو ما رآه البعض محاولة من شخصيات داخل الصرح الطبي لجر اللاعب وإجباره على التبرع طالما تم طرح اسمه لإنقاذ الموقف.
معايير مختلة
ما يثير امتعاض المتبرعين أن المستشفى يطبق معايير مختلة للمساواة بين المرضى، فهو يعالج ابن الغني بالمجان، كما تفعل مع أبناء الطبقة المعدمة، مع أن هناك فئة يمكن أن تدفع مالا نظير علاج أولادها، وهذا ليس استغلالا ماديا، لكن يفترض أن تكون أموال التبرعات مستهدفة لأبناء الفئة العاجزة عن توفير الحد الأدنى من مصروفات العلاج، وما دون ذلك يسهم في دفع التكلفة.
ولا يوجد في مستشفى 57357 قسم اقتصادي، بل يتم علاج جميع الأطفال مجانا، وهذا في حد ذاته خلل واضح في الإدارة بشكل يتعارض مع هدف المشروع بأنه أقيم لعلاج الأطفال المنتسبين إلى أسر غير مقتدرة، مع أنه لو كان هناك جزء استثماري فهذا لا يتعارض مع الإنسانية، بل يصل بالتبرعات إلى المستهدف الحقيقي، ويسهم القسم الاقتصادي لأبناء الطبقة المقتدرة في رفع العبء المالي عن المستشفى.
عرف المصريون مستشفى 57357 منذ عام 2007، عندما كان أحد أكبر وأضخم المؤسسات الطبية المتخصصة في علاج سرطان الأطفال بالمجان، وكان هذا التخصص نادرا في مصر، ومن بعدها انتشرت حملات إعلانية ضخمة شارك فيها مستثمرون أصحاب ثقة ومصداقية وسابقة أعمال خيرية كثيرة، بينهم سيدة الأعمال الشهيرة، الراحلة علا غبور التي كانت صاحبة فكرة إنشاء المستشفى مع زوجها منير غبور.
صحيفة "فيتو" المستقلة كشفت أن عدد أسرّة مستشفى الأطفال لا يتجاوز 300 سرير فقط، بفرعها الرئيسي في القاهرة، وفرعها الثاني بمدينة طنطا في شمال القاهرة
أسست علا غبور جمعية أصدقاء معهد الأورام التي صارت تحمل اسم جمعية أصدقاء المبادرة القومية ضد السرطان عام 1998 لتوفير العلاج الكامل لمرضى السرطان بالمجان بالتوازي مع تعظيم البحث العلمي وتطوير تقنيات العلاج داخل المعهد ونشر التوعية المستمرة للوقاية من المرض، بعد إصابتها بالسرطان، وخوضها رحلة علاج طويلة خارج البلاد، واتفقت مع بعض رجال الأعمال لإنشاء مستشفى 57357 من أموالهم الخاصة، وكللت جهودها بالنجاح وصار صرحا عملاقا.
رحلت غبور متأثرة بالسرطان بعدما نجحت في تحقيق حلمها بأن تكون في مصر مؤسسة طبية تساعد على أن تكون بلادها خالية من هذا المرض، وغيّبها الموت عقب افتتاح المستشفى وبدء استقبال مرضاه من الأطفال، حيث تهافت على التبرع له غالبية المصريين من مختلف الطبقات الاجتماعية، وتحول إلى كيان طبي استثنائي، لكن مع الوقت وكثرة الإعلانات التي تصدر الكآبة وتزرع جذور اليأس والإحباط خارت قوى المستشفى الذي طالما قام على التسول وابتزاز المشاعر دون حُسن الإدارة.
ورغم التوقعات التي تصل حد اليقين بأن الدولة لن تترك المستشفى ينهار ويغلق أبوابه في وجه الجمهور، حتى لو تدخلت بدعمها ماليا من موازنة الحكومة، لكن العبرة في أن يكون بقاء 57357 مرهونا بخطوات إصلاحية على مستوى الإدارة والرقابة على التبرعات والتحقيق في كل ما يثار عن وجود شبهات فساد، قبل أن يجد المصريون أنفسهم مخدوعين بالاستيلاء على أموالهم باسم العمل الخيري، وأن يكونوا مدفوعين قسرا للتخلي عن التكافل الاجتماعي والعمل الإنساني.