حيرة مع بيزوس

تصاب بالحيرة حين تقرأ في يوم واحد خبرين، يبدوان متناقضين، عن شخصية مهمة مثل جيف بيزوس. لا يحتاج بيزوس إلى تعريف. هو مبتكر البيع عبر الإنترنت. شركة أمازون التي أسسها هي علامة فارقة في تاريخ تحول البيع من الدكاكين إلى المواقع الإلكترونية. اليوم أمازون واحدة من أكبر الشركات قيمة في العالم، وبيزوس رابع أثرى شخصية عالمية.
مبعث الحيرة هو القرارات التي يتخذها بيزوس بشكل متزامن تزامنًا مربكًا؛ فقد أعلن أنه قرر التبرع بمعظم ثروته للجمعيات الخيرية. هنا نتحدث عن 125 مليار دولار، أي أكثر من الرصيد المتراكم في البنك المركزي العراقي حاليا بعد أكثر من سنة من مبيعات النفط الاستثنائية. وفي اليوم نفسه يقرر رئيس شركة أمازون أن يسرّح عشرة آلاف موظّف في توقيت لا يوصف إلا بأنه الأسوأ اقتصاديا والأشد وطأة على مثل هؤلاء الموظفين منذ ثلاثينات القرن الماضي. يد تعطي بسخاء مذهل ويد، أو عين، تحجب عن الآلاف دون أن يرق قلب صاحبها لحال من سينتهي بهم الأمر إلى البطالة.
من السهل القول إن القرار الأول إنساني والقرار الثاني تجاري. لا شك أن هذا التفسير وارد. ولكن كيف يمكن الفصل بين الإنساني والتجاري في هذا الظرف العالمي الذي نعيشه؟ الحكومات نفسها تتردد في اتخاذ قرارات التقشف خوفا من الانعكاسات الاجتماعية.
لا أجد تفسيرا غير التنشئة البروتستانتية؛ فجيف بيزوس وطليقته ماكنزي سكوت، التي تبرعت العام الماضي بستة مليارات دولار لمنظمات إنسانية وجمعيات خيرية بلا قيد أو شرط، غير معروف بالضبط أيّ دين يدينان به. بيل غيتس وزوجته ميلندا، وهما من أصحاب فكرة تحويل مشروع تبرع الأثرياء بنصف ثروتهم وأكثر في حياتهم إلى إعلان، ليسا بروتستانتيين بل من الروم الكاثوليك. شريكهما في الإعلان الملياردير وارن بافيت من الكنيسة المشيخية ولكنه يقول إنه “محايد دينيا” أو “لاأدريّ”. من الأثرياء السوبر ممن انضموا إلى الإعلان، هناك المسيحي واليهودي والملحد. لكن عالم الأعمال في الولايات المتحدة هو عالم يعكس الطريقة البروتستانتية في التفكير. لا أعرف إن كان توصيف “قسوة” ملائما لتبيان الطريقة البروتستانتية في التنشئة والتفكير، لكن بالتأكيد هي تربية صارمة وليست متساهلة. حياة مؤسس صناعة السيارات
الحديثة هنري فورد مثال للزهد والتقشف، ونموذج للتبرع بسخاء. المبدأ في هذه التنشئة هو العمل بجد ومثابرة بعيدا عن العواطف، والتعامل مع النتيجة كمنحة ربانية لصاحبها عليه أن يعرف كيف يمررها إلى من بعده.
هل هذا الإيثار ديني أم اجتماعي؟ من الصعب الحكم. الأوقاف كانت دائما جزءا من ثقافات الشعوب، لكنها عادة ما ترتبط بالشأن الديني. في كثير من الدول العربية هناك وزارة اسمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. الأوقاف مال، والشؤون الدينية مساجد. لسبب نفسي، أكثر منه عمليّا، تم دمجهما في هيكل واحد.
أموال الأوقاف في الغرب، ممّا يتبرع به كبار الأثرياء، أو تلك التي يتم تحصيلها من تبرعات عامة الناس، وهي عادة ما تكون أقل من تبرعات الأثرياء، تجد طريقها إلى المؤسسات البحثية والصحية والإنسانية. تخليد الذات في الغرب لا يتم ببناء الكنائس، بل بالعمل الصالح، في حياة الإنسان وبعدها، على حد التوصيف الإسلامي. العمل الصالح فيه من الشدة والرأفة ما يكفي لصلاح العمران البشري.