تنصل الخطاب الديني من معالجة التشدد يوسع قاعدة الإلحاد

لدى شريحة كبيرة من الأجيال الجديدة فوبيا من كل ما هو ديني جراء محاصرتهم بالتشدد من كل الاتجاهات.
الأربعاء 2022/10/19
نقاشات لا تغير شيئا

القاهرة - أثار إعلان مرصد الأزهر العالمي للفتوى بورود أسئلة كثيرة إليه من الأهالي بسبب إلحاد أولادهم، حالة من الجدل السياسي والديني والمجتمعي في مصر، في ظل اتهامات أطلقتها المؤسسة الدينية صوب جهات خارجية، دون أن تسمها، قالت إن لديها إستراتيجية قائمة على نشر الإلحاد في المجتمعات العربية.

ويتنصل الأزهر من أن تشدده وخطابه الماضوي من الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص للكفر بدينه حيث يتعرض هؤلاء للتهديد المتواصل بنصوص فقهية لمجرد رفض الاعتراف بما يسوّق له الشيوخ.

وأوحى اتهام قوى خارجية بأنها تقف وراء نشر الإلحاد في المجتمعات العربية بأن رجال المؤسسة الدينية يتمسكون بتبييض صورتهم على أجيال صارت تائهة ولا تعرف أين الحقيقة، وماذا وراء هذا الدين الذي يفترض أن يدعو للسماحة والمودة والتراحم، فمن أين يأتي الشيوخ بنصوص العذاب والوعيد في الدنيا والآخرة؟

وإذا كان الخطاب الديني المتشدد لا يغير من قناعات الشباب بشكل مباشر ويدفعهم نحو الإلحاد، تظل المعضلة الأكبر في أرباب الأسر الذين يدمنون الفتاوى والنصوص الفقهية القديمة ويستسلمون للتدين السلفي ثم ينقلون كل هذه الرؤى والقناعات إلى أولادهم ويجبرونهم على الالتزام بها فتبدأ أولى مراحل كراهية الدين.

سامح عيد: الإلحاد بحاجة لخطاب ديني معاصر إذا كانت هناك نية لمواجهته
سامح عيد: الإلحاد بحاجة لخطاب ديني معاصر إذا كانت هناك نية لمواجهته

وتعج فتاواى السلفيين، ومن على شاكلتهم من المنتمين للأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف في مصر، بنصوص تتوعد كل من لا يلتزم بالحد الأدنى من التكليفات الإلهية بالعذاب في الدنيا والنار في الآخرة، حتى أصبحت لدى شريحة كبيرة من الأجيال الجديدة فوبيا من كل ما هو ديني جراء محاصرتهم بالتشدد من كل الاتجاهات.

وبالنظر إلى الحلول التي اقترحها رجال فقه لعلاج الإلحاد، فهي تبدو أكثر تشددا من تلك الفتاوى الشاذة التي جعلت شريحة من الشباب يلفظون الدين، حيث لا تكف بعض الأصوات الدينية عن مطالبة الحكومة بسن تشريعات تعاقب الملحد بدعوى أنه خطر على الدين وقد يحرض غيره على السير في نفس الاتجاه.

أما على مستوى الفتاوى فهناك قائمة طويلة من الرؤى الفقهية الضيقة التي تتعامل مع الملحد بطريقة التهديد والوعيد كوسيلة قد تدفعه للتراجع عن المسار الذي قرر المضي فيه، فما بين وصفه بالكافر إلى إباحة قتله والتحريض عليه بأشد العقوبات، استمر رجال الدين في ممارسة قضاة محاكم التفتيش الشرعيين تحت مبرر اقتلاع الإلحاد من جذوره.

وتعكس هذه الشواهد إلى أي درجة أصبح الخطاب الديني المتشدد من مؤسسات رسمية وشيوخ سلفية ومن ينتمون لجماعات الإسلام السياسي سببا رئيسيا في انتشار الإلحاد دون اكتراث بأن علاج الأزمة يكمن أولا في الاعتراف بأسباب الظاهرة، ووضع حلول واقعية لها بعيدا عن رجال الدين أنفسهم مع أهمية احتواء الشباب لتجنب انجرافهم لأفكار وهمية.

وقال سامح عيد الباحث المتخصص في شؤون جماعات الإسلام السياسي إن ما يلفت الانتباه إعلان الكثير من الأفراد في مجتمعات عربية قناعاتهم بالإلحاد على الملأ بعد أن كان ذلك طي الكتمان، لكن المشكلة أن علانية التشدد دفعت البعض إلى علانية الإلحاد في ظل عدم وضع حد للخطاب الديني المتطرف الذي يثير الفزع أحيانا.

وأضاف لـ”العرب” أن الميل نحو الإلحاد جزء منه التمرد على التراث القديم والنصوص الفقهية التي تجعل العقل أسيرا لرؤى دينية بعيدة عن صحيح الدين نفسه، وهناك من يؤمنون بها ويتعاملون معها بقداسة، مع أن الكثير من الملحدين يعادون فكرة القدسية، والإلحاد بحاجة لخطاب ديني معاصر إذا كانت هناك نية لمواجهته.

ولدى البعض من الملحدين قواعد شبه ثابتة لا تتغير، أهمها أنه لا يوجد شيء في الوجود يجب تقديسه بالترغيب أو الترهيب، والمقدس الوحيد هو الإنسان، لكن في عقيدة الكثير من رجال الدين المتشددين لوجهات نظرهم أن المقدس الوحيد هو ما نُقل عن الماضي، والنصوص الفقهية التي لا يجوز تنقيحها أو أخذ أفضل ما فيها.

شريحة من الشباب في مصر فقدت الثقة في الدين لأن جماعة الإخوان التي اتخذت من “الإسلام هو الحل” شعارا لها، ووظفته في جني مكاسب سياسية رخيصة

ويرى مراقبون أن الأزمة الحقيقية تكمن في تباعد الرؤى والمسافات والأفكار بين الذي يفكر في الإلحاد وعقلية رجال الدين أنفسهم، فالشخص قد لا يكفر بالدين بقدر ما يكفر بمن ينصبون أنفسهم أوصياء وحراسا على العقيدة ونجحوا في توصيل صورة عنهم أمام المجتمع بأنهم مكلفون من الله لحماية الدين ونشره بين الناس ولو بالقوة.

ويعتقد هؤلاء المراقبون أن الكثير من الشباب، والبعض من المتقدمين في السن، لم يعودوا يفرقون بين الشيخ المنافق والإمام الصادق فتكرست عندهم حساسية مفرطة من الدين عموما، طالما أن الذين يمثلونه على الأرض يسوقونه للناس على أنه متحكم في كل مناحي الحياة ويحرم أكثر ما يبيح، فتاهت الحقيقة بين العقلاني والمتشدد، فاختار البعض مقاطعة هذا الدين.

وتشير بعض الأصوات العقلانية إلى أن استمرار تقديم الدين للناس بطريقة قديمة على شاكلة الخطبة والوعظ دون اكتراث بمتطلبات العصر، من الحاجة إلى خطاب عقلاني يتيح للناس حرية التفكير والنقد ويكرس للتسامح والاحتواء، فإن الكثير من الأجيال الجديدة سوف تفقد بوصلتها لأنها في هذه الحالة سوف تتهم الدين بأنه سبب الرجعية.

وأشار عيد لـ”العرب” إلى أن محاولة بعض رجال الدين عودة الصحوات الدينية أو التدين تحت الضغط بلا تحجيم لدورهم في المجتمع، ووضع حدود لتدخلاتهم في حياة الناس، فإن ذلك سيجلب المزيد من النتائج العكسية التي قد تدفع البعض للنفور من الدين، ما يفسر حجم كراهية الناس في مصر لفترة حكم الإخوان، فقد كانوا يريدون فرض الدين على الناس كرها.

ويبدو الأزهر غير مكترث بكل ذلك، ولا يعبأ عن عمد أو جهل بأن بعض الذين يسلكون مسار الإلحاد لا يستهويهم الخطاب الديني الرجعي، بل يبحثون عن آخر عقلاني وسطي متحضر بقدر ما يتواكب مع متطلبات هذا الزمن، لذلك يتجه بعضهم إلى مفارقة الدين ليس نكاية به أو عداء معه إنما مع الخطاب المقدم.

وثمة معضلة أخرى مرتبطة بأن معالجة الإلحاد بالخطابات الدينية، ولو كان يلقيها شيخ الأزهر نفسه، لم تعد تروق لكثير من الشباب لأنهم يريدون نقاشا جادا مقنعا يقوم على الفهم والاشتباك في الفكر لا فرض النصوص الفقهية بالأمر الواقع، لأن بعضهم يميل إلى الإلحاد لأنه صار عاجزا عن فهم الحقيقة، وآخرون بلغ بهم الحال لفقد المصداقية في الدين بسبب من يتحدوث باسمه.

تنصل الأزهر من أن تشدده وخطابه الماضوي من الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص للكفر بدينه
تنصل الأزهر من أن تشدده وخطابه الماضوي من الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص للكفر بدينه

ويصعب فصل ظاهرة الإلحاد عن الرواسب التي خلفتها تيارات الإسلام السياسي، ففي مصر فقدت شريحة من الشباب الثقة في الدين لأن جماعة الإخوان التي اتخذت من “الإسلام هو الحل” شعارا لها، ووظفته في جني مكاسب سياسية رخيصة من خلال الخداع والنفاق والتملق، ما ترك انطباعات سلبية خطيرة في أذهان الشباب، خاصة الفئة التي لا تفصل بين الدين والتدين.

وأمام استمرار الرواسب القديمة والقطيعة بين قطاع من الشباب والإسلام بسبب الإخوان والسلفيين، أصبحت هناك تساؤلات مطروحة من الذين يميلون ناحية الإلحاد: أين مبادئ العدالة والرحمة التي أقرها الدين؟ ولأن التيارات المتشددة رحلت عن المشهد، وبقي صوت التطرف مرتفعا استمرت نفس التساؤلات المحيرة بين الدين الذي يدعو للتسامح والرحمة والنصوص التي تحرض على الترهيب والتكفير وأصبحت تُصدّر للناس ليل نهار لتظل الأزمة قائمة، طالما صمتت الحكومة عن ترك المجتمع يخضع لولاية الفقيه.

ولذلك تتفق أغلب الأصوات على أن المواجهة الواقعية مع الفكر الإلحادي لا يجب أن تكون عبر تشريعات أو رؤى دينية ضيقة ولا بديل عن الرد على ما تطرحه هذه الفئة بالحوار والنقاش والمصالحة بلا قيود أو محاذير، على أن يكون ذلك بعيدا عن طريق رجال الدين الذين أصبحت مصداقيتهم على المحك وصارت النسبة الأكبر منهم في نظر من يميلون للإلحاد، إما أنهم متشددون أو كاذبون.

6