فنانة مغربية تلاحق صمت الطبيعة لتستخرج منه لوحات ضد الدمار

يرى الناقد الفني شرف الدين ماجدولين أن الفن المعاصر في السياق العربي ينطلق من قاعدة فكرية تراهن على توزع حقل القيم وتشظيها في تعامل الجمهور مع العمل الفني. فمن جهة ثمة رهان على العمل ذي العمق المفهومي والرمزي، المنبني أساسا على سنن حجاجية، الرافض والمُفكِّك، ومن ثم قد يبدو منفرا وعدوانيا تجاه العالم، انتقاديا للحاضنة الثقافية التي تبلورت فيها صيغه ومقولاته ورهاناته. ولكن تجربة الفنانة المغربية فاطمة بوسعيد وإن كانت تفكك وتحتج وترفض كخطاب سياسي وبيئي فإنها خيرت أن تستعمل السلاسة لا العدوان أو الصدام.
تعمل الفنانة التشكيلية المعاصرة فاطمة بوسعيد على أعمالها الفنية من منطلق متجدد ينظر إلى الفن اليوم بوصفه “حركة إيكولوجية” ووسيلة بديلة وإستيتيقية للدفاع عن الحياة، وذلك في ظل كل هذه التغيرات الرهيبة التي تحيط بنا، والتي تقود كوكبنا نحو المجهول.
لهذا انبرت الفنانة إلى الورق بعد اشتغال طويل على مواد متعددة، بعدما أخذتها الصدفة إلى الاستماع إلى هسيسه (صمته) فنيا. جاعلةً منه سندا وموضوعا وذريعة. إذ تقع أعمال بوسعيد في مفترق الطرق بين الصمت والهسيس، بين الطبيعي والمعاد تدويره، بين الخام والمصنّع (تصنع الفنانة ورقها الخاص).
الإنصات إلى الصمت
الفنانة تشتغل على أعمالها ضمن سياقات معاصرة متعددة، منها التركيبي والإنشائي والنحتي والمنتمي إلى فن الأرض والصباغي
لأن “الصمت يجعل من النسيان شريكا له” (برنار نويل)، ففاطمة بوسعيد تسعى عبر عملية الاستماع إلى نبض الورق الصامت، إلى إعادة إحياء ذاكرته (ذاكرة الطبيعة والعالم)، وذلك من خلال ما تنتهجه من استدراج لمختلف أنواع النباتات إلى مختبرها، حيث تخضعها لسيرورة من العمليات الدقيقة، لاستخلاص كنهها وردّها إلى حالة الجوهر القابل للتحويل في أشكال عدة.
تعمل الفنانة التشكيلية المعاصرة فاطمة بوسعيد على أعمالها الفنية انطلاقا من هذه الرؤية التي تهتم بـ”السيرورة” processus بوصفها جزءا لا يتجزأ من العمل الفني، من حيث أن السند الرئيسي الذي تتكئ عليه كل الأعمال، المعروضة في المعرض الفني “كون مغاير” الذي جمعها بالفنانة سوسن المليحي، وهو (أي السند) نتاج عملية “تصنيع الورق وتطويعه وتشكيله”.
وتهتم بـ”الصيرورة” devenir بِعَدِّها وليدة تلك الصدف والقفزات الناتجة بشكل لاواعي لكنه يخدم جماليات العمل. وذلك لما يعتري كل عمل من خواص فريدة تميّزه عن الأعمال الأخرى.
ولا يعدّ العمل الفني عند بوسعيد “نتيجة” فحسب، بل إنه “سيرورة” و”صيرورة” أيضا، وإن كنا إزاء أعمال جاهزة الصنع. إذ يمتلك كل عمل زمنا معينا من الإنتاج، سواء عبر تدخل قصدي ومباشر أو عن غير قصد من قبل الفنان. مما يمنح المنجز الفني تاريخه الخاص يجمع بين الاتصال والانفصال؛ تاريخ يحمله معه أينما وُضع وأينما عُرض، وإن تعلق الأمر بمنجز عرضيّ وزائل ومتلاشٍ زمنيا (أعمال فن الأرض والبرفورمانس).
القول والصور

أعمال تتجاوز البعد الجمالي ليصير في قلب المطالبة السياسية
قاد الأمر فاطمة بوسعيد إلى الاشتغال على أعمالها الفنية ضمن سياقات معاصرة متعددة، منها التركيبي والإنشائي والنحتي والمنتمي إلى فن الأرض والصباغي… متتبعة صمت الطبيعة أينما حلت، لتستخلص منها الكلمات المخبأة منذ القدم، إذ “بعض الأحيان كما لو كان صمت الطبيعة في انتفاضة؛ كما لو أنه أراد أن يغزو كلمة الإنسان” (ماكس بيكارد)، تجعل بوسعيد من أعمالها مرآة شعرية تكشف وتبيّن الصمت اللامرئي في الطبيعة، كأني بها تنشد ‘البيان الطبيعي” أو بتعبير ميشيل سير: “العقد الطبيعي”.
فإن كان عصرنا عصر الماكينات والآليات الصاخبة، عصر الضجيج الميكانيكي والإلكتروني، إلا أن الصمت لم يغب عنه أبدا، إنه الملجأ الوحيد الذي بقي للفرد حينما يريد أن ينعزل إلى ذاته والاستماع إليها.. ولأن مهمة الفنان مهمة نقدية بالدرجة الأولى، فمنجزات بوسعيد بقدر ما تُعدّ بيانا بيئيا فهي دعوة إلى “الإنصات إلى الصمت” المنسي في كثافة الصخب العارم الذي يحيط بنا من كل الجوانب. إنها بهذا المعنى أعمال تلامس هشاشة العالم والكائن. تتغيا شعرية الرهَفِ والرّقة والصمت.. فالشعري لا يكمن في الكلام المسموع أو الأشكال المرئية فحسب، بل إنه كائن – أيضا – في فترات الصمت والفراغات وفي اللامرئي والمُغيّب بصريا، كامن في الجوهر الصامت للأشياء والعالم.
تخترق فاطمة بوسعيد كل مفاهيم اللوحة لتنشئ فضاءات بصرية من الفراغات والهشاشة وهسيس الورق، مبتدعة من خلالها أشكالها الحيوية ومتبعة القولة “نحن نقول وأنتم تتأوّلون” (الفرزدق)، محولةً ‘القوْل” إلى “صور”.. فالفنانة تصوّر لنا – عبر عملية صناعة الورق التي تتبعها – “الحياة” في اختزالية وتكثيف مبهريْن. وهو ما يفتح أعمالها على آفاق المجازات المتعددة والتأويلات التي لا تعد ولا تحصى، لما يعتري المنجز من بلاغة لا تنتهج سبل الكلام، بل الصمت.
توظف الفنانة الأقل الممكن من المفردات الصباغية، في منجزاتها الأخيرة، عاملة على جعل الأوراق تُبرز تباينات الألوان وتدرجاتها، التي تمنح العمل الفني إيقاعاته الطبيعية الصامتة وتناغماته البصرية الخافتة.. لا تحيد عن الطبيعة في اشتغالها، فبقدر ما المواضيع الرئيسية متعلقة بالبيئة وما تتعرض له من تغيرات قسرية وقاسية، فموادها التي تستعين بها مستخلصة من الطبيعة أيضا، إذ تعمد إلى إضافة أصباغ طبيعية إلى السند الورقي المعاد تدويره، أو تستند إلى لعب بالألوان أثناء صناعة الورق، وغيرها من الطرق العفوية والمقصودة التي تعمل على خلق تناغمات وإيقاعات متداخلة فيما بينها، تخدم الرؤية الفنية التي تنطلق منها بوسعيد في اشتغالها.
روح الطبيعة
لطالما شكلت الطبيعة مصدر إلهام للفنانين، عبر التاريخ الطويل للفن، إلا أن الإدراك الفعلي لهشاشة البيئة وحساسيتها، لم يتم إلا مؤخرا. حيث سيتحول الفنان إلى “صوت” الطبيعة وشاهد على ما تتعرض له من تغيرات لا تقود إلا إلى الدمار. إذ يتجاوز البعد الجمالي ليصير في قلب المطالبة السياسية، إنه بهذا المعنى سياسي بالسلب.. ومن هذا الانعكاس الإستيتيقي يولد الفن البيئي، الذي يمكن أن ندرج جل أعمال فاطمة بوسعيد في خانته الشاسعة.
البيئة بالنسبة إلى هذه الفنانة، أو لنقل الطبيعة والكون بشكل أشمل، هي امتداد لنا ونحن امتداد لها، إننا من نسيج واحد، فكل متغيّر حاصل فيها يطرأ علينا والعكس أيضا. ويتجلى الأمر في تلك الأعمال التي استعانت في “نسجها” بـ”المرمة والطرز (الحياكة والزخرفة)”، عامدة إلى جعل الطبيعة (الأوراق النباتية الملصقة على القماش) في قلب النشاط اليومي والحساس للإنسان (المرمة والزخرفة النسائية). إننا بهذا المعنى، لا نستطيع أن نخيط أشياءنا ونصنع حاجاتنا بمعزل عن الطبيعة وخاماتها. ومنه لا يمكن أن نرى الطبيعة إلا بوصفها عملا فنيا ضخما (مُطرّزا)، بالمعنى الفني الاجتماعي، حيث لا انفصال بين الفن والمجتمع والعالم.
مما دفع بوسعيد إلى العمل على استخلاص ما يمكن تسميته بـ”روح الطبيعة”، جوهرها الشفاف والصامت. فحينما تضع مجموعة من الأوراق المصنّعة، تمثل قناديل البحر، في قارورات زجاجية محكمة الإغلاق، فهي تعمل في الآن نفسه، على تمثيل عالمنا المقفل القاتل الذي خنق هذه الكائنات الخالدة، التي تحمل معها تاريخ النشأة الأرضية، وإنها الشاهد الحي على كل تغيرات العالم وتطوره.. وفي المقابل فهي تجسيد لكل الحيوات الأخرى المعرضة للاختناق والاندثار. كما أنها تمثيل مصغر لذواتنا الهشة والمختنقة، والتي تسكنها روح الطبيعة الخالدة الساعية للحرية والتحرر.
لقد طورت فاطمة بوسعيد مشروعها الإستيتيقي بروِيّة وتبصّر، معتمدة على البحث والتنقيب الدائم في أساليب الفن وتاريخه، وخاصة المعاصر منه.. ويتضح الأمر جليا في منجزاتها المتفاعلة مع اليومي والعابر والإنساني، والمنتمية طواعية إلى المعاصرة اشتغالا ورؤيةً. فنقف إزاء لوحات تغدو منشآت معلقة، ومنشآت متدلية أو منتصبة بالإضافة إلى منحوتات ذات طابع متجدد منفلت من الديمومة المتصلبة التي تخشاها الطبيعة.
السجل البصري لبوسعيد عامر بالمفردات الطبيعية وضاج بالرمزية المستندة على الجوهر الإنساني الطبيعي المسالم.. متعقّبة إيقاعات الصمت، لتشكيل رؤاها الحالمة المجردة من كل الأشكال التي تقود إلى المعنى المعطى بالمجان.. وهي رؤية يعتريها القلق الوجودي بالمعنى الهايدغري للكلمة، حيث بقدر ما نسعى إلى الهروب من الموت فنحن نقترب منه، لهذا فهي تظهر الهشاشة والحساسية التي تعتري عالمنا والتي لا نكاد نبصرها، حتى نعيد للحياة قيمتها في مواجهة الشبح الذي يطاردنا. مما دفعها إلى الكشف عن “الكون بصيغة مغايرة”.



