استنساخ البرامج

تصارع الفضائيات للبقاء، ولم يعد الأمر مجرد مزحة، فآليات الإعلام الحديث لم تتضرر منها الصحافة المكتوبة لوحدها، فالتلفزيونات نفسها باتت تعاني من هروب جمهور المشاهدين ومن غياب الإعلانات، وهو أمر يجعلها على طريق النهاية بالرغم من المكابرة ومحاولة ربح الوقت على أمل أن يغير الله الحال.
وفي ظل محدودية التلفزيون الحكومي على المناورة وتغيير آلياته بحكم إدارة بيروقراطية تأخذ القرارات بعد فوات الأوان، باتت المنافسة الآن بين التلفزيونات الخاصة، وهي ليست منافسة على المحتوى وطرح أفكار وزوايا جديدة، لكنها منافسة على الاستنساخ وبشكل مكشوف.
حين يقرر تلفزيون خاص موعدا لبرنامج رياضي أعد له بشكل جيد واستثمر فيه الأموال بهدف جلب الإعلانات، فإن الفضائيات المنافسة تبادر بدورها إلى وضع برنامج رياضي في نفس التوقيت وبنفس العناصر، أي جلب ضيوف من مدربين فاشلين ورياضيين سابقين والتعليق على الأحداث الرياضية التي يعرفها القاصي والداني وبأسلوب الصياح وتصفية الحساب مع هذا المدرب أو ذاك.
في التلفزيونات الخاصة التونسية تجد يوم الاثنين ثلاثة برامج رياضية تدوم أكثر من ساعتين، وكل معدّ برامج ينشر إحصائيات تقول إنه الأكثر مشاهدة وفق مقاسات تقييم البرامج (أوديمات). وكل واحد لديه أوديمات موالية له، وتقول إنه الأول، وهذا يعني أنه الأحق بالإعلانات أكثر من منافسيه.
والأمر نفسه يحصل مع برامج الواقع، التي باتت تستضيف مواطنين لعرض تجاربهم الفاشلة في الحياة، وما يتعرضون له من مشاكل بشكل يحولهم إلى ضحايا يستحقون الدعم والإسناد. وصار معدو البرامج يتسولون باسم ضيوفهم لتحصيل دعم مادي لهم.
والمفارقة العجيبة أن التنافس لا يقف عند البرامج التي ما تزال تستقطب بعض الجمهور، فإنك تجد مواعيد متشابهة لبرامج الطبخ والبرامج الطبية وخاصة برامج التسوق التي باتت تملأ الفضائيات التونسية كل صباح، عدا التلفزيون الحكومي الذي ليس معنيا بجلب المال.
الفضائيات تحولت إلى متاجر وبوتيكات تعرض نفس المعروضات الإعلانية بوجوه نسائية مختلفة، لكنها تردد نفس الكليشيهات عن التخفيضات والأسعار التي لن تجد مثيلا لها في السند والهند، وتحرض في استجداء لافت على اعتماد الرقم الهاتفي المعروض الذي هو خاص بالمتجر التلفزيوني دون سواه ليأخذ عمولته.
بالتأكيد، فإن استنساخ البرامج وإعادة تدوير الأفكار وبنفس الوجوه، كل عام في تلفزيون، ظاهرة تكشف التغييرات التي دخلت على الإعلام وخروجه من دائرة التثقيف والإخبار وتقديم الجديد إلى مرحلة صار فيها الهدف منه هو كسب ود المشاهد، ومن ثمة جلب المعلنين، بأي طريقة.
لكن فكرة استنساخ الواقع لم تعد تفيد خاصة بعد أن هرب الواقع/المشاهد إلى عالم المنصات وخدمات التكنولوجيا الإعلامية الحديثة التي لا تتوقف عن الاختراع والتنويع والتجديد لشد المتقبل.