لماذا لا يتوج كاتب عربي بنوبل للآداب

لماذا لا يتوج كاتب عربي بنوبل للآداب؟ سؤال يراود الجميع، سرا وعلانية، حتى أولئك الذين يدعون أن الجوائز لا تقيم الأدب ويتعففون عنها، وإن كان في ذلك جانب صحة، فإنه لا يخلو من مواربة.
لنتفق بداية أن ما جعل نوبل الجائزة الأدبية الأهم في العالم هو أنها لا تمنح لكتاب بعينه، وإنما لتجربة أدبية وثقافية كاملة، قد تستدل عليها بعناوين من مؤلفات من تختاره، أو حتى عنوان واحد، وتبرر الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة سنويا تتويجها لكاتب بعينه بإبراز تأثيره الفكري والجمالي
والفني وحتى السياسي والاجتماعي، وبالتالي فهي تتويج لمشروع ثقافي كامل من خلال الأدب.
حيت توجت نوبل نجيب محفوظ، العربي الوحيد الذي نال الجائزة، توجت مشروعا ثقافيا كاملا مثله الأديب المصري، الذي كشفت أعماله وجه مصر الحضاري من خلال الحارات المهملة، والحكايات المتروكة والشخصيات والتفاصيل الخاصة، وها هو تأثير محفوظ الثقافي ماثل إلى اليوم.
على العموم لنسأل أنفسنا بداية ونجيب بصدق: هل لدينا حراك أدبي عربي فعلي؟ هل نجحنا في خلق تجارب أدبية تتجاوز المحلية إلى العالمية؟ وهل نجحت تجاربنا الأدبية في أن تتحول إلى مشاريع تمثل الثقافة العربية، أو حتى القطرية للبلدان العربية، في العالم؟
واقع متشعب جدا اجتماعي وسياسي ونفسي واقتصادي يعوق الكتاب العرب عن إنجاز تجارب ثقافية مؤثرة
يشكو الكثيرون من قلة ترجمات الأدب العربي إلى اللغات الأخرى، وهو واقع. بعضهم يدفع مالا ليترجموا له، وهو حقه، لكن هل يحقق الانتشار في الثقافة المسافر إليها؟ هل يحقق مقروئية أو أي اهتمام فعلي؟ لنعد إلى منشأ الأدب العربي، في مجاله المحلي، هل هناك سوق أدبية فعلية؟
يشقى الكثير من الكتاب العرب لنشر أعمالهم مع طفرة في عدد دور النشر الخاصة، التي ابتدع بعضها بندا تحت مسمى “مساهمة الكاتب المادية”، لـ”ابتزاز” كل راغب قي نشر كتاب، بغض النظر عن جودة عمله، وهذا خلق كما كبيرا من الكتب الرديئة، وأفقد الناشرين المصداقية.
من ناحية أخرى بعض دور النشر الأكثر جدية تعمل في الحقيقة من خلال العلاقات، وتدّعي صناعة الكتّاب والكتب، بينما تحركها تكتلات وإخوانيات عاطفية أو أيديولوجية أو مصلحية ..إلخ من أنواع الروابط الممكنة عدا رابطة الأدب طبعا، لهذه الإخوانيات هدف واحد، هو السلطة في مفهومها الواسع والضيق وما تحققه منها.
دور نشر تحولت إلى أدوات سلطوية، تقيم النصوص وفق موقع الكاتب لا نصه.
ولكي لا نعمم هناك تجارب قليلة من الناشرين الذين نجحوا في خلق مصداقية بينهم وبين القراء، لكنهم بدورهم يفتقرون إلى منظومة نشر متكاملة، يحضر فيها نظام التحرير والوكيل الأدبي والنقاد ومبدأ اكتشاف النصوص الجيدة والجديدة ومبدأ حرية الفكر والإبداع، ونحت التجارب الأدبية. النشر في النهاية صناعة متكاملة، ولها علاقة بمختلف فروع الثقافة وتمظهراتها.
الأدب العربي فيه نصوص هامة، وتجارب مميزة تستحق الانتشار العالمي، والتتويج، لكنها كتجارب يخنقها واقع صعب، واقع الشِلَل المسائية والمجموعات النفعية
لا نلوم الناشرين بمفردهم طبعا، فهم في النهاية حلقة من حلقات الثقافة العربية المهتزة، التي تدور في أغلبها حول السلطة لا خارجها، ثقافة خاضعة اجتماعيا وإعلاميا وماديا وسياسيا، ثقافة تخاف من مجتمعاتها وتتنصل منها بكل الطرق، والأدب في محور هذا الواقع المتردي.
سيقول بعضهم إن بعض الكتاب العرب بلغوا مراتب هامة دوليا ونالوا جوائز عالمية قديرة، على غرار البوكر، لكن نعود إلى ما أسلفنا ذكره، هذه جوائز تتوج النصوص لا المشاريع الأدبية والتي تخفي وراءها امتدادا لمشاريع ثقافية.
لخلق تجارب أدبية تخرج من المحلية لا بد أولا من تهيئة البيت الداخلي للأدب العربي، بتنظيم قطاع النشر، والتحفيز على الإبداع، وتوسعة سوق الأدب بشكل فعال، لا يغفل الجانب الثقافي لصناعة الكتب، وتكريس مبدأ ضروري هو الحرية والجرأة.
من ناحية أخرى يحتاج الأدب العربي إلى منظومة نقدية فعلية متجددة تقطع مع المجاملات والاصطفاف، مثلا كأن تقدم دور النشر كتبها في طبعات محدودة للنقاد قبل تداولها في السوق، وهو أمر مأخوذ به في جل الثقافات التي تحترم صناعة الكتاب. يجب التركيز أكثر على نحت التجارب من خلال إعادة الاعتبار لدور النقد، علاوة على التنسيق بين دور النشر في هياكلها الخاصة (اتحاد الناشرين العرب مثلا) وتكريس مبدأ المردودية بعيدة المدى والأبعد من الربح الآني أو المادي فحسب، والدفع إلى إنشاء سوق فعلية للكتاب العربي، الذي يعاني من عوامل عديدة كقلة المقروئية واضطراب التوزيع وارتفاع التكلفة علاوة على الرقابة.
صحيح أن جوائز للأدب العربي قد حفزت العرب على الكتابة أكثر وعمقت التجارب أكثر، ولكنها لا تكفي بمفردها، وهي بدورها مطالبة بالشفافية وإعلاء المبدأ على الشخصنة.
من النادر أن تجد كاتبا يتابع الفنون الأخرى بذات الشغف، من مسرح وتشكيل وسينما ورقص وحتى رياضة ويشتبك مع بيئته اشتباك عنصر منها لا عقل مترفّع
التتويج بنوبل أو غيرها يتاح للأدب الأصيل والخارج من عمق ثقافي له خصوصيته والمنفتح على العالم، الأدب المتحرر من القيود والمجدد، الأدب الذي نجح في أن يكون تجربة خاصة لها فرادتها، والذي له جذوره الثقافية وتأثيراته اللافتة.
الأدب العربي فيه نصوص هامة، وتجارب مميزة تستحق الانتشار العالمي، والتتويج، لكنها كتجارب يخنقها واقع صعب، واقع الشِلَل المسائية والمجموعات النفعية، علاوة على منظومة نشر لا تخدم في أغلبها الأدب بل تزيفه، وتكرس المكرس وتنبذ غيره، واقع التضييقات التي لا تنتهي.
من ناحية أخرى الكتاب أنفسهم معنيون بقصور نصوصهم، لماذا لا يسأل الكاتب العربي سؤال: لماذا أكتب؟ الكثير منهم يغرق في اجترار ذاته، أو الاصطفاف الأيديولوجي، أو العزلة الوهمية أو حتى النرجسية، ويبقى الأخطر الانغلاق الفكري والجمالي وتحويل الكتابة إلى مشروع ذاتي بأهداف مضحكة أحيانا. من النادر أن تجد كاتبا يتابع الفنون الأخرى بذات الشغف، من مسرح وتشكيل وسينما ورقص وحتى رياضة ويشتبك مع بيئته اشتباك عنصر منها لا عقل مترفّع.
إذن هو واقع متشعب جدا، فيه الاجتماعي والسياسي وحتى النفسي والاقتصادي أيضا، يعوق الكتاب العرب على إنجاز تجارب ثقافية من خلال الأدب، وبالتالي يظل الأدب العربي قاصرا عن بلوغ العالمية.