في وداع بي بي سي عربي

استقبال الموجة المتوسطة للراديو يرتبط بالبعد عن محطة الإرسال أو التقوية، وبكثافة الهواء التي ترتبط بالفترة من السنة ودرجة الحرارة. الاستماع إلى الإذاعات العالمية في العراق لم يكن سهلا. محطات التقوية لإذاعات بي بي سي عربي ومونت كارلو وصوت أميركا كانت في قبرص كما أظن. ربما كان من السهل الاستماع إليها خلال النهار في بلدان البحر المتوسط، لكن بالتأكيد كان الأمر صعبا في العراق. مع تراجع الحرارة عندما تغيب الشمس، نبدأ بسماع بثها على الراديو.
هذا عصر يسبق الفضائيات ويسبق البث التلفزيوني الوطني المتواصل. البديل كان الراديو، والراديو على الموجة المتوسطة كان يعني إذاعات بغداد وصوت الجماهير والكويت. إذاعة الكويت كانت متميزة، ولكنها لم تكن مسيّسة ومن الصعب معرفة كل ما يجري في العالم بالإنصات إليها. الأغاني التعبوية والترفيهية تملأ أثير البث الإذاعي للمحطات العراقية.
معرفة ما يجري في العالم تحتاج الانتظار إلى المساء. قبل المغيب نسمع بي بي سي عربي، وبعد المغيب تظهر مونت كارلو وصوت أميركا في الوقت نفسه تقريبا. بدأ اهتمامي بالسياسة أواخر السبعينات، وصار الراديو الترانزستور رفيق المساء. مع اشتعال الحرب العراقية – الإيرانية زاد الأمر تعقيدا بعد أن عمدت السلطات إلى بث تشويش على الموجة المتوسطة بتردد قريب جدا من ترددات الإذاعات العالمية (وإذاعة طهران بالطبع). باءت كل محاولات التقاط المحطات عبر الموجة القصيرة بالفشل.
من الصعب توصيف أثر الإذاعات العالمية الناطقة بالعربية على الناس في الشرق الأوسط. هذه الإذاعات هي المكافئ لأثر الإنترنت في فجر انتشارها أواخر التسعينات ومطلع الألفية الثالثة. إخباريا تجعلك مواكبًا لأبرز ما يجري في العالم. أخبار الإذاعات المحلية بائسة في أحسن الأحوال ومغربَلة لتخدم التوجه السياسي للبلاد. يمكن أن يمر خبر مثل العملية العسكرية الأميركية لإنقاذ رهائن السفارة الأميركية في طهران وفشلها، دون أن تسمع به في الإذاعة المحلية. الدنيا مقلوبة في الحديث عن الحدث، ولا تجد أثرا له في الإعلام المحلي. تمر أشهر على غزو السوفيات لأفغانستان دون إثارة الموضوع محليا. البديل كان الإذاعات العالمية.
بمرور الوقت تبدأ بشم رائحة السياسات في الإذاعات العالمية المختلفة. كل إذاعة تبث الخبر نفسه ولكن بطريقتها، وتناقشه بما يعكس توجهات الدول التي تمول وتدير تلك الإذاعات. بتطور الوعي الشخصي تصبح لديك القدرة على استنتاج ما يشبه، إذا جاز القول، “البث الإذاعي المقارن”. وبتشكّل الوعي السياسي تتعلم ألّا تنظر إلى الأمور من زاوية واحدة. أنا، ومَن هم مِن جيلي وقبله وبعده، مدينون لتلك الإذاعات العالمية. تختلف معها أو تتفق، هذه قضية نسبية. لكن بالتأكيد كانت توفر ما لم يكن موجودا محليا في الأصل.
جاء عصر الإنترنت وتوفرت الأخبار على مدار الساعة على المواقع والفضائيات. احتارت تلك الإذاعات في اختيار النموذج الذي عليها أن تتبعه كي تبقى حاضرة. إذاعة صوت أميركا أمست “سوا” بخلطة الأغاني والأخبار السريعة. صارت أقرب إلى طريقة مونت كارلو التي لم تكن إخبارية تماما، لا بالأمس ولا اليوم.
بقيت بي بي سي عربي تتعثر؛ وقعت في إغراء الفضائيات، فلا هي أتقنت صنعة التلفزيون ولا هي حافظت على تميزها في الراديو. كانت قد خسرت كثيرا بعد أن استنزفت الجزيرة كوادرها منذ مرحلة تأسيس القناة القطرية في منتصف التسعينات. ثم صارت بي بي سي عربي تجمعا لتيارات سياسية، بعضها دينيّ، كل يجر فرشة الأخبار نحو عقائده وأوهامه الأيديولوجية.
ثم حان وقت الإغلاق.