وليد سيتي يكتشف المدلولات البصرية برؤى جديدة

حمل الفنان وليد سيتي هويته الكردية معه إلى المهجر، متأثرا بجبال بلاده الشاهقة وطبيعتها المتنوعة، فانعكس ذلك على عمله التشكيلي المندفع نحو اكتشاف الرموز وتقديمها بشكل مغاير وبمعان لا متناهية، تفسح المجال أمام المتلقي لخوض تحليلات متجددة مع كل نظرة يلقيها على اللوحة.
أن تكون من دهوك المدينة الأجمل في كردستان العراق، والتي تحيط بها الجبال من جهات ثلاث، الجبل الأبيض من الشمال وجبل مام سين من الشرق، وجبل زارا من الجنوب، فتجعل من هوائها نقيا كالآلهة، يعني أنك ابن مكان جميل ويعشق الجمال، يعني أنك ابن لذاكرة بصرية ومعرفية تجعلك بالضرورة صاحب ذائقة فنية وقادرا على أن تكتنز مدلولاتها على مدى البصر والبصيرة.
أن تكون ابن دهوك يعني أنك ابن لنقائها ولشموخ جبالها فكيف لا تتجسد طاقاتك الروحية في اشتعال مواهبك العذبة، وترفع من قدرتك على الاندفاع والتمايز. أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على قراءة تجربة أحد فناني دهوك الذين باتوا سفراءنا في هذه الأرض الضيقة، أحد فنانيها الذين يشار إليهم ببنان أبنائها لما قدموه من أعمال ستوثق أسماءهم في سجل المتميزين، ولن يركنهم التاريخ بين عتمته، بل سيكونون شموعا له ورموزا واقفة فيه، يمنحونه مضاءه ويتسامون نحو الخلود، لما لهم من فعل حضور منحاز للحرية والإنسان، ولما يكرسونه من فضاءات سامية لا متناهية في مواجهة العدم ولا معنى الحياة.
الفنان الذي سنقف عنده اليوم ينتمي إلى تلك الجوقة الجميلة التي ستلعب سطوتها على ذاكرتنا، والتي تمتلك هي الأخرى حضورا رمزيا عالقا بالذهن البشري، يرتقي إلى السماء وكأنه الأثير الصافي، وأقصد هنا الفنان وليد سيتي (دهوك 1954) الذي كان أحد الفرسان الفائزة في بنالي الشارقة 2017، إذ كان واحدا من أربعة فائزين فيها.
درس الفنان في معهد الفنون الجميلة قسم الغرافيك في بغداد ما بين عامي 1971 و1976، وما بين عامي 1976 و1982 حصل على البكالوريوس والماجستير في الغرافيك من أكاديمية الفنون الجميلة في لوبليانا عاصمة سلوفينيا، وفي عام 1984 ذهب إلى بريطانيا، وهو مازال يعمل ويعيش في لندن إلى الآن.
بداية يحق لنا أن نقول إن وليد سيتي ينفذ إلى دواخل نصه ويرصد كل الحركات التي تديره، بما فيها تلك المتسترة على نفسها. وهو يذهب في أقاصيه وأغواره، لا يستعصي عليه تحديد بعض حركاته التي تحتاج إلى ضبطها، فالكيان زاخر بالهدير والانفعالات، وهو ليس أمامه إلا وعاؤه الذي يحمله والمليء بالمعاني، فيمنحها حتى تصبح صالحة للقراءة مهما حاول الإقفال على نفسه.
والنص البصري لدى الفنان الكردي ليس مجرد خواء لوني وشكلي يسكنه معنى محدد معلوم، بل تسكنه الروح لذلك تكون دلالات تلك القراءة كثيرة ومتشحة بمعان كثيرة وإن كان بعضها متشحة بغلالة من الغموض، منتظرة الكشف وإن كان من المحتمل أن تمارس القراءة النقدية عليها كنوع من رفع الحجاب عنها، حينها ستنشد في ذهن المتلقي ذلك الإبهار الذي يبحث عن خلقه كل فنان، وثم إيهام ذلك المتلقي بقضايا منجزاته والمضي به إلى تحايله على الواقع والنص معا، فالقراءة فعل احتواء للنص، مهما تكتم هذا النص على مقاصده ومراده، ومهما جعل من حبائله تسير وفق مقرراته، ومن ذلك رفض سيتي بث المعاني بنهايات مغلقة، بل بالمعنى المعرفي نستطيع أن نقول بأنه يتركها مفتوحة على بداياتها ونهاياتها مشرعة على بداياتها.
لا دروب مقفلة لدى وليد سيتي، بل يدفع بها جميعا نحو فضاءات مستباحة بوصفها خطابات جمالية تفصح عن ذاتها بطرائق مختلفة، لكل منها إفصاحها وسلطانها، لكل منها لحظتها التاريخية التي تفي بحاجاتها الجمالية طيلة استمراريتها بالتعلق بها، فهي دائمة الفعل في الوجدان الجمعي مستجيبة لمتطلبات تلك اللحظات التاريخية. يرجع ذلك أساسا إلى شروط نهوضها بوصفها إسهامات إبداعية تحمل سر قوتها في ذاتها، وتمتلك مقدرة فائقة على الاندساس في الذاكرة علها تنجح في افتتاح آفاق تمثل رؤى لمسارات مغايرة، ومليئة بالممارسات التي تهفو الروح لها وفق النسق الذي بموجبه يرفع سيتي حضوره مهما كانت المزالق تترصده، فلا تصعب عليه الإحاطة بكل ما هو معقد، يكفيه الرغبة العاتية في فضاءاته بوصفها رؤيته لهذا العالم.
الفنان الكردي وليد سيتي هو في تحول دائم، لا يستكين ولا يهدأ، ينشد الجديد بغية إرساء كل ما هو غير مألوف، إرساء المغاير والمختلف، وهذا هاجسه الذي يشغله كثيرا، وطموحه الذي يمضي إليه، تجلى ذلك صريحا في دعوته إلى الهدم، ليبدأ بالبناء بالشكل الذي يحلم، يبدأ بالإحياء الذي سيتعدى اللحظة الحاضرة ويشرع في النفاذ إلى جوهر الأشياء وصميم الحقائق وفق معزوفاته هو.
نعم إنه فنان يكسر القوالب بروح متمردة ويعيد اكتشافها، وإن كان الأمر يحتاج إلى إعادة تقييم أدوارها، إعادة ترتيب فصولها المختلطة، ووضعها جنبا إلى جنب مع التدفقات المفاجئة لأفكاره وحالاته النفسية بمعايير تحمل قساوة الزمن، ومرونة الروح في الوقت ذاته، بغناها إلى الاتساق التجريبي. ومهمة الفنان لا تقتصر على استعادتها على النحو الأكثر ملاءمة، بل يهيمن عليها ويوجز تجلياتها بدقة، وهذا يحيله على خلق مونولوج حاضر وغائب هو الذي يروي حكايته التي لا تنتهي، الحكاية المستعادة أبدا بلغته هو.
إذا كانت المرأة هي ملهمة أكثر الفنانين والمبدعين إن لم تكن جميعهم، إلا أن الحال عند وليد سيتي مختلفة، فملهمته ما هي إلا جباله التي يعشقها بكل ما فيها من إدهاش، وبكل ما فيه من لهفة، يدفعها إلى أعماله حتى تكتمل سيرته، فدونها ستكون تلك السيرة ناقصة، تحتضنه ويحتضنها بكل ما لهما من أحلام مشتركة، يتنفس على سفوحها بكل ما يمتلكه في دواخله من أحاسيس وعواطف، وتتنفس على بياضه بكل تطلعاتها المفعمة بالقلق والثورة، ملهمته ما هي إلا تاريخه وتراثه وحضارته وبيئته التي مازالت رائحتها تفوح من مجمل أعماله، فهو وبما ما يملكه من قدرة عالية على التعبير يكتشف مدلولاتها البصرية بعاطفة ملتهبة تزيد إرادة الخلاص لديه، وتمنحه خيالا مشحونا برؤى جديدة تقوده نحو سطوح لا بد أن تجعل من مخزوناته ينابيع تسقي تلك السطوح بالأمكنة وبقاياها، بالمسافات وتفاصيلها، بطبيعة تحمل كل تأملاتها.
وليد سيتي له رصيد كبير من الإنتاج والنشاطات، قدم العشرات من المعارض الفردية، وشارك في العشرات من المعارض الجماعية في أرجاء الأرض المختلفة، مثل الولايات المتحدة، إيطاليا، بريطانيا، النمسا، روسيا، هولندا، الصين، بلجيكا، دانمارك، سلوفينيا وتركيا، وغيرها. وله مساهمات خاصة في معارض فنية مميزة، كالمعرض الذي أقيم في المتحف البريطاني عام 2008، وفي المتحف الحربي الملكي البريطاني، وله مساهمة كبرى في المهرجان الفني العالمي في البندقية (2011 – 2015)، من كل ذلك ندرك أن جعبته مليئة بالإنجازات التي ستتحدث عنه طويلا، والتي ستروي سيرته التي اجتازت الحدود وهي تبحث عن الحرية.