"مغناة البحارة" طرح فني تونسي حديث يدوّن الموروث اللامادي

تُستخدم خشبة المسرح في الغالب لتقديم عروض مسرحية، لكنها قد تكون في بعض الأحيان النادرة فضاء لعرض أعمال تمزج بين المسرح والموسيقى والشعر والرقص، تكون في ظاهرها عروضا فرجوية لكنها في الباطن منجز سمعي بصري يوثق للتراث الثقافي اللامادي ويحميه من النسيان.
اعتادت المهرجانات المسرحية التونسية أن تفتتح فعالياتها بعروض مسرحية محلية تقليدية لا تحاول البحث عن التخصص وتقديم مادة فنية تكون صورة مبسطة عن الجهة المنظمة بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية، رغم أنها مهرجانات تستقطب ضيوفا عربا وأجانب يحاولون رصد الجهود التونسية الفردية والجماعية لتقديم منجز مسرحي قادر على منافسة التطور المتسارع في حركة المسرح عربيا ودوليا.
وفي محاولة لكسر البرامج النمطية، قدم مهرجان مسارات المسرح الذي ينظمه مركز الفنون الدرامية والركحية بالمهدية، المدينة الساحلية التونسية، في افتتاح دورته الرابعة عرضا مسرحيا موسيقيا، يمزج بين الموسيقى والشعر والرقص والأداء المسرحي للتعريف بجزء من الموروث الثقافي اللامادي، وسرد قصة الفن في المهدية، عاصمة الفاطميين قديما، والتي يطلق عليها اسم “ذات الهلالين”، ويقول عنها المؤرخ حسن حسني عبدالوهاب في كتابه خلاصة تاريخ تونس “المهدية مدينة جليل قدرها، شهير في قواعد الإسلام ذكرها، وهي من بناء عبيدالله المهدي أول خلفاء العبيديين وإليه تنتسب”.
للبحر سطوته

"مغناة البحارة" نموذج مصغر عن سطوة البحر في رسم ملامح الحياة الثقافية والاجتماعية لأهالي المهدية والمدن الساحلية عموما
من عالم البحر الذي جعل المهدية مركزا لعدد من الحضارات القديمة، وهو الذي وضع بصمته في أعماق الشخصية “المهدوية” وتفاعلها مع المحيط وتفاصيله، جاءت “مغناة البحارة”، العرض الموسيقي المسرحي الذي افتتح مهرجان مسارات المسرح، ليكون صورة موجزة تقدم خلال ما يناهز الساعتين نموذجا مصغرا عن سطوة البحر في رسم ملامح الحياة الثقافية والاجتماعية لأهالي المدينة والمدن الساحلية عموما.
والمغناة هي من تصور وإخراج حسام الغريبي، ديكور وسينوغرافيا فتحي النخيلي، توزيع موسيقي حسين الجبالي، وتعبير جسماني لمجموعة نجوى بن زينب.
بخلفية زرقاء تحيل إلى البحر وبمجسم مصغر لبرج المهدية، التي كانت حصنا قديما، يتشكل فضاء العرض، ليكون ميناء بحريا يوحي بالخصوصيات الحضارية والتراثية لمدينة المهدية. حيث يجتمع مجموعة من الموسيقيين كأنهم يحركون الذاكرة من خلال الحفر بواسطة الأداء لاستحضار تراث الجهة التي كانت في فترة ما عاصمة دولة إسلامية، وأثرت في الجهات المجاورة لها.
يقول البيان الصحافي المصاحب للعرض إنه “جاء إيمانا منّا بالحفاظ على الذاكرة والإنتاج الثقافي بجهة المهدية الذي أصبح إنتاجا غير مدوّن، أردنا أن نقدم عرض ‘مغناة البحارة’ الذي تجتمع فيه كل الطاقات الموسيقية والفنية بجهة المهدية وإعادة توزيع المنتوج الموسيقي في شكل فرجوي جديد يتماشى مع تحديات الحداثة في طرح جمالي بعيدا عن المألوف من خلال استغلال آليات الدراما والمشهدية والإضاءة ليكون شعرية مشهدية حديثة ومتطورة تحفل بها الذاكرة، وكذلك قدّمنا ‘مغناة البحارة’ لمنتوج جهوي جديد، حيث أن المهدية لم تقدم افتتاحا محليا منذ أواخر الثمانينات فكان هذا العمل جمّاعا للمبدعين من مدينة المهدية في شعرية يمتزج فيها الوتر بالجسد”.
وبسينوغرافيا بسيطة لكنها شديدة الخصوصية، فهي ذات مستويات تجعل من الصورة متحركة لا ثابتة، تجعل الفضاء تجريبيا وتجريديا، أنشد مجموعة في الفنانين أغاني من تراث أهل الجهة، وهي في مجملها تتغنى بالبحر والأولياء الصالحين وتكشف أن الموسيقى لدى سكان المناطق الساحلية لا تشبه الموسيقى لدى سكان سفوح الجبال أو السهول والهضاب ولا أهالي الصحراء، فلكل منهم نغمته الخاصة والمفضلة، ولكل منهم طقوسه في الفرح والابتهال وحتى التفاعل الجسدي مع النوتة.
في المهدية، يتغنى الناس بـ”الرايس” أي رئيس البحارة وربان سفينة الصيد، فحياتهم تدور بأكملها حول عالم البحار، لكنهم يذكرون أيضا ساكني الزوايا الصوفية وأولياء الله الصالحين الذين يذكرهم التاريخ التونسي بأنهم كانوا يتخذون مساكن لهم بجوار البحر ويرى فيهم أهالي المدينة حصنا منيعا في وجه الغرباء والغزاة، ويتقربون من خلالهم إلى الله.
"مغناة البحارة" اعتمدت في جانب كبير منها على الموسيقى والرقص، لكنها لإتمام كافة عناصر الفرجة الضرورية، قدمت أزياء محلية نابعة من تاريخ المنطقة
يتكلم الفنانون بلسان أهل المدينة، فينادون الشيوخ والرموز الدينية ومنهم جابر الأنصاري وهو شيخ وعالم عرف بزهده وحب الناس له وكثرة أتباعه ومريديه الذين ينهلون من علمه، وكذلك الشيخ مطير الذي لم نجد له أثرا وقد لا يكون له وجود أصلا بل هو مجرد تسمية مستوحاة من المطر التي يطلبها الإنسان في سنين المجاعة والقحط.
ويوضح هذا العرض الموسيقي أن المهدية تشبه بقية المحافظات التونسية في تعاطيها مع الشيوخ والرموز الدينية وخاصة منها الصوفية، إذ لا تكاد تخلو محافظة تونسية من أغان وأذكار صوفية، فالجميع يتبرك بهم ويرجوهم في السراء والضراء.
لكن إيقاع الدف لدى سكان المدن الساحلية مختلف عن غيره، فهو متوازن خفيف ذو إيقاع موزون بدقة، كحركة المد والجزر التي تسير بدقة لامتناهية حتى وإن ثار البحر وهاج.
ولا يقدم العرض الفرجوي الكثير من الآلات الموسيقية بقدر ما يكتفي بالآلات الضرورية التي يمتاز بها أهل المنطقة، والتي تفي بالغرض وتوضح الرسالة المرادة من العرض الذي جاء خليطا بين الألحان العربية والغربية والأفريقية.
وبالتوازي مع الموسيقى، يؤدي بعض الراقصين وصلات مقتضبة على بعض الأغنيات، تبدو في حقيقة الأمر كمشاهد مسرحية تصور رحلة البحارة، فمع حركة الساقين المتناغمة مع إيقاع الدف، يحرك أهالي المهدية أيديهم بإشارات متكررة تشبه بشكل كبير عمل البحارة في سحب شباك الصيد ورميها في عمق البحر، وهم إذ يبتهجون أحيانا ويؤدون حركات سريعة، تتباطأ حركتهم فجأة لتنذر بخطر أو تعبر عن تغير في الحالة النفسية وفي كلمات الأغنية ونغمتها. كما يؤدي الفنان المسرحي جمال العروي، بلباسه الأبيض الذي يرمز إلى لباس شيوخ الصوفية، نصا شعريا تصاحبه بعض الموسيقى والحركات المسرحية.
امتداد تاريخي
اعتمدت “مغناة البحارة” في جانب كبير منها على الموسيقى والرقص، لكنها لإتمام كافة عناصر الفرجة الضرورية، قدمت أزياء محلية بامتياز، تعبّر بدورها عن خصوصية المنطقة، وتستمد جماليتها من عمق التاريخ الفردي وحتى الجماعي المشترك.
تشكل الأزياء التقليدية في ولاية المهدية عنصرا مهما من التراث اللامادي للجهة، هذا اللباس الذي تأثر وبإجماع المؤرخين بالعديد من الحضارات، ومن أسماء بعض الملابس، يأتي “الحزام”، “التخليلة العربي”، “الحرام الفاسي”، “التخليلة المطرزة”، “قمجة الطفطة” و”قمجة الطوالي”.
وتوضح أزياء عرض “مغناة البحارة” أن الألوان المعتمدة في اللباس التقليدي لأهالي المدينة يطغى عليها الأخضر والأحمر، مع أبيض نقي وتطريز ذهبي يزيد أزياء النساء قيمة وبهاء، وهي بالطبع ليست ألوانا اعتباطية أو جاءت بفعل الصدفة وإنما موغلة في ثقافة المدينة التي كانت عاصمة الفاطميين (909 - 934 م).

من عالم البحر الذي جعل المهدية مركزا لعدد من الحضارات القديمة جاءت “مغناة البحارة” العرض الموسيقي المسرحي الذي افتتح مهرجان مسارات المسرح
وفي التّاريخ الإسلامي، كانت الألوان المذكورة في النص القرآني هي المفضلة لدى المسلمين، لذلك نرى أهالي المهدية يرتدون في أفراحهم ملابس باللونين الأخضر والأحمر، ويحيون بها تاريخ أجدادهم الفاطميين. فالأخضرُ هو اللون الذي اختاره الفاطميون ليميزوا خلافتهم ودولتهم عن لون السواد الذي اتخذه العباسيون وارتبط بخلافتهم، أما اللون الأحمر فكان ولا يزال من أكثر الألوان إثارة وتمييزاً ولفتاً للنظر، وقد تعاملت معه مختلف الثقافات ومنها الثقافة العربية باعتباره تعبيراً عن حالات قصوى من المشاعر والعواطف، كالحبّ والغضب. وعلى مستوى الأديان، فإنّ الأحمر لون يرمز إلى القوة والنصر في الحروب الدموية، وهو أيضا تعبير عن العشق الإلهي والاستعداد للشهادة في سبيل المعشوق.
وتفيد المصادر التاريخية بأن الفاطميين بنوا مدينة المهدية بداعي الاستجابة إلى حاجة ملحّة للأمن، وكان عبيداللّه المهدي، إمامُ الشيعة الإسماعيلية، في أثناء ارتياده ساحل البلاد انطلاقا من مدينة تونس -التي لم تصادف هوى في نفسه- ووصولا إلى الموقع الذي اختاره لإقامة عاصمته الجديدة.
وعرفت هذه الدّولة بالاهتمام بالمعرفة والفلسفة والفنون، وكان للغناء والمعازف موقع كبير فيها أيضا، فقد اهتم الخلفاء بالفنون الجميلة وخاصّة الموسيقي والغناء، كما اهتم بعضهم بإقامة حفلات جمعت بين جلال الملك والطرب الشعبي. وحرص الفاطميون على وضع بصمتهم في الغناء عبر نقل أيديولوجياتهم لتكون مرددات في الأعراس والأفراح.
وبالفعل، تحضر في “مغناة البحارة” إشارات إلى الدولة الفاطمية الشيعية، حيث تستنجد بعض الأغنيات بفاطمة الزهراء، ابنة النبي محمد، وتمجد أخرى علي بن أبي طالب زوج فاطمة وابن عم والدها، وهما تقريبا حاضران في أغلب الأغاني وفي الموروث الشفهي للمهدية وبعض المدن الساحلية المجاورة لها أيضا، وهو موروث قادم من عمق التاريخ حين كانت المهدية حصنا فاطميا، لكنه موروث مهدد بالاندثار لندرة عمليات التوثيق والأرشفة على المستويين السمعي والبصري.