شبكتنا الاجتماعية أكثر متانة

البلاد العربية تعيش وضعا اقتصاديا سيئا. الوجوه عابسة مثلها مثل الوجوه في الغرب. لكن ما أسميه الشبكة الاجتماعية الأساسية، أي التضامن العائلي، لا تزال قادرة على منع تساقط الأفراد.
الأربعاء 2022/08/24
القلق مرتسم على وجوه الناس

في العديد من البلدان، تسبق ملامح وجوه الناس الأرقام الاقتصادية الرسمية. تمشي في الشارع فترى القلق مرتسما على الوجوه، فتنتظر بيانات وزارة الاقتصاد أو البنك المركزي لتفسيره. إذا انتشر القلق، وتحوّل ما على الوجوه منه إلى كآبة، فإن البيانات ستكون سيئة وليست مجرد تراجع بسيط في الأرقام. الابتسامة والأمل يستبقان أيضا مؤشرات النمو. الإنسان هو المجس الاقتصادي الأول.

منذ ما يقرب السنة، انحسرت موجة كوفيد وتأثيرها على الاقتصاد. في بريطانيا، ظلت حكومة بوريس جونسون تبشر بأن القادم خير وفير. لكن الوجوه بقيت عابسة. كوفيد غطى على كارثة بريكست. الخروج البريطاني من أوروبا نسف الاقتصاد البريطاني بالمعنى الحرفي للكلمة. ثم حاول الكذّاب جونسون الاحتماء بحرب أوكرانيا وتقدم الصفوف في مواجهة الغزو الروسي، لكن حبل كذبه الطويل، بل الطويل جدا، وصل إلى نهايته. وجوه البريطانيين تحمل آثار عبث جونسون بمقدرات بلد عظيم كان رائدا في كل شيء، من المكائن البخارية وإطلاق الثورة الصناعية قبل مئات السنين، وصولا إلى جعل أغاني البوب صناعة تدر المليارات.

كيف استبقت وجوه البريطانيين الأرقام الرسمية المخيفة التي تنشر هذه الأيام وتتحدث عن انكماش اقتصادي لم يحدث مثله منذ عام 1709؟ كل لديه مقياسه. لكن أنا لديّ مقياسي البسيط. عندما يكون لديك في جيبك المال، ولكن تعجز عن الحصول على السلعة أو الخدمة التي تريد، فتعرف أن أحدهم نسف الاقتصاد لأسباب ومبررات مختلفة، حقيقية أو مصطنعة. تذهب إلى مطعم وتجد أن العاملين هناك تم تجميعهم كيفما اتفق دون خبرة أو تدريب، فتدرك أن ثمة نقصا في الأيدي العاملة يجبر صاحب المطعم على تشغيل أيّ شخص يقرأ لافتة “مطلوب عمال” المعلقة في واجهة المطعم. تتحدث إلى الناس، فيثيرون قضايا عن عدم تنظيف المرافق الصحية في المطاعم والمولات والحدائق. تسمع عن معاناة الملايين من كبار السن ممن يقضون شتاء أعمارهم في دور العجزة والمسنين ويدفعون مدخرات العمر، لكن أصحاب هذه الدور يعجزون عن العثور على مستخدمين يقومون على العناية بالكبار، من نزهة في حديقة الدار إلى حمام بشكل دوري مقبول إنسانيا. المال موجود، لكنّ العاملين عادوا منذ وقت طويل إلى ديارهم في أوروبا. بريكست الخراب لا يزال في بدايته.

ما كان المال يشتريه في الغرب، صار صعبا الحصول عليه. الأولاد تركوا آباءهم وأمهاتهم منذ سنين في دور العجزة، وهم منشغلون الآن في البحث عن عمل. كيف تعيد عجلة الحياة بشكل عكسي ليعود الكبار إلى منازلهم ويأتي الأولاد للعيش معهم إلى حين انجلاء الأزمة؟ معادلة صعبة.

البلاد العربية تعيش وضعا اقتصاديا سيئا. الوجوه عابسة مثلها مثل الوجوه في الغرب. لكن ما أسميه الشبكة الاجتماعية الأساسية، أي التضامن العائلي، لا تزال قادرة على منع تساقط الأفراد، الكبار منهم أو الشباب، في قاع الأزمات. الأبناء لم يفرّطوا بآبائهم وأمهاتهم رغم التذمر المصاحب للعناية بكبير السن. والآباء والأمهات يفتحون بكل ود الباب لعودة الابن أو البنت حين يفقدون أعمالهم أو تتراجع مصادر دخولهم بسبب الأزمات. الكثير من الشباب بالأصل لم يغادر دار الوالدين. هنا أقول إن شبكتنا الاجتماعية التي فيها الكثير من روح التضامن غير القائم على المال والخدمات مقابل شيء، أكثر متانة من شبكة الغرب التي ترسب في امتحان حماية الإنسانية لنفسها وأخلاقياتها.

20