هل أصبحت وزارة الثقافة التونسية وزارة مهرجانات

مازال القطاع الثقافي في تونس مرتبطا بالدولة ودعمها ومؤسساتها وبيروقراطيتها، ما خلف كسلا وتنميطا وتكرارا بعيدا عن الإبداع، وتحول بذلك الدعم إلى غاية لا وسيلة، بينما تضاعفت المهرجانات وتعددت من دون تأثير ثقافي حقيقي، وهو ما يدعو إلى مراجعة شاملة.
تخمة المهرجانات الثقافية والفنية في تونس لا يختلف عليها اثنان ولا يجادل فيها أحد، خصوصا في مثل هذه الأيام من فصل الصيف، الذي لا يعد موسما ثقافيا بالأساس وفق الأعراف المتفق عليها في الكثير من بلدان العالم.
48 في المئة من المهرجانات في تونس تقام في شهري يوليو وأغسطس من كل عام. وفي هذا الصدد، تقول الناقدة كريمة السعداوي إن أغلب هذه المهرجانات تلقى انتقادات واسعة من العديد من متابعي الشأن الثقافي في البلاد باعتبارها لا تقدم إضافة إلى المشهد الفني والثقافي، ويقتصر نشاطها على برمجة العروض التجارية لتحقيق الأرباح والاستجابة لأذواق الجمهور العريض.
العقلية الانتهازية

التظاهرات الصيفية لا يمكنها أن تصنع ثقافة حقيقية ولا أن تطور العمل الإبداعي بل هي تصيبه بالكسل
نعم، يمكنك القول إنّ الثقافة لا تعترف بمنطق المواسم، وذلك على اعتبارها فعلا يتسم بالديمومة والمعايشة اليومية للحياة الإبداعية ذات الصلة بالكينونة المتجددة، لكن سوية التلقي والتفاعل مع الإنتاج الثقافي تتراجع في فصل الصيف لتترك محلها لكل ما هو ذو طابع ترفيهي إن لم نقل “مسفّا”.
وبالمناسبة، لازمت عبارة “ترفيه” الثقافة ضمن التسمية الرسمية (وزارة الثقافة والشباب والترفيه) أيام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وانتقد ذلك مثقفون تونسيون رافضين هذه المزاوجة الهجينة في نظرهم، ومنزهين بذلك الثقافة عن الترفيه.
ومهما يكن من أمر، فإن الثقافة بمفهومها الأوسع والأعمق هي كل نشاط بشري يعكس علاقة الإنسان بمحيطه ويأخذ تعبيرات متنوعة، فمتى كان الترفيه خارج هذا النسق الدلالي، ولماذا يقع استهجانه أو التعامل معه باستعلاء؟
وبناء على ما تقدم فإن مهرجانات تونس الصيفية التي أصبحت تعد بالمئات، لم تكن إلا خيارا ثقافيا بالدرجة الأولى، اتخذته الوزارة منذ تأسيسها عام 1961، واحتكمت في ذلك إلى إستراتيجية واضحة المعالم ضمن خطة تنموية شاملة تهدف إلى بناء الدولة والمجتمع.
الإصلاحات التي جاءت في خطة وزارة الثقافة في ما بعد لم تمس من جوهرها، وإنما حاولت التطوير والتوسع في الهوامش فأصابت حينا وأخطأت أحيانا كثيرة، لكنها لم تحد عمّا أراده الأب المؤسس الذي سميت مدينة الثقافة باسمه تكريما لإنجازه وهو الشاذلي القليبي.
وبالعودة إلى المهرجانات التي أصبحت الشغل الشاغل لهذه المؤسسة الرسمية التي كادت أن تسمى “وزارة المهرجانات” كما ينتقدها مثقفون كثيرون، فإن مثل هذه التظاهرات الصيفية لا يمكن لها أن تصنع ثقافة حقيقية، ولا أن تساهم في تطوير العمل الإبداعي بل من شأنها أن تصيبه بالكسل وتعوّد أصحابه على التقاعس والاتكالية.
العقلية الانتهازية التي تستهتر بأموال المجموعة الوطنية وتعتمد المحاباة والمحسوبية، تسربت إلى الوسط الثقافي الذي هو ليس بمعزل عن الفساد الإداري الناهش لجسد الدولة
صحيح أنّ النشاطات المهرجاناتية بمثابة القاطرة التنموية لما لها من إسهامات في الحركة السياحية وغيرها، لكنها ليست الغاية من الفعل الثقافي، ولا جوهره، بل أحد تجلياته، إذ ليس من باب المنطق والصواب أن نحتفل بمواسم الحصاد والقطاف، دون اهتمام بمواسم الحرث والزراعة والبذار.
وفي هذا الإطار، يزايد بعض سماسرة المهرجانات ويُخرجون كلام وزيرة الشؤون الثقافية التونسية حياة قطاط القرمازي من سياقه في قولها “لن ندخر جهدا في جعل المهرجانات في أبهى صورة ممكنة لها لأن في ذلك ترويجا لصورة تونس بلد الفن والجمال والتسامح والحوار الثقافي حتى تكون بلادنا قبلة مفضلة للجميع في كل أصقاع العالم”.
لا يخفى على أحد من المهتمين والمتخصصين أن الوزارة بمختلف مؤسساتها ومديرياتها الفرعية والجهوية أصبحت أشبه بالتكيّة، يقصدها ضعاف الحال والموهبة والمسترزقون وسماسرة المهرجانات ممن يحسبون على الثقافة، وذلك طلبا للدعم وما أدراك ما “الدعم”، الكلمة السحرية التي لا تسمع غيرها قبيل موسم المهرجانات.
الشأن الثقافي قد تجاوز مرحلة الحضانة والرعاية من طرف الدولة، وقد آن الأوان ليعتمد على نفسه ويجد تمويلا خاصا
إنها تسمية تونسية بامتياز، رنانة وكثيرة التداول والاستعمال في الأوساط الثقافية والفنية وما جاورها من نشاطات تحسب على الثقافة والترفيه، لكن غالبية تلك النشاطات ذات طابع تجاري بحت، وليست من الثقافة في شيء. نعم، هذه هي الحقيقة التي يعلمها أهل الثقافة الحقيقيون في تونس ويتحسرون عليها دون القدرة على فعل شيء.
“الدعم” – أعزك الله – أن تتأبط ملفا وتملأ استمارات تعرّف بـ”مشروعك الثقافي العتيد”، مهما كان نوعه، وتشير إلى أنه يصب في “فائدة البلاد”. تقدمه إلى اللجان المختصة التي ينبغي لك أن تعرف أكثر عدد ممكن من أعضائها ضمانا للتزكية، تطلب ميزانية وتنتظر الموافقة حتى تشتري منك الوزارة عروضا مسرحية أو غنائية أو موسيقية أو لوحات تشكيلية أو ما شابه من “البضاعة الثقافية” التي تسعى لترويجها وتقبض ثمنها من وزارة الثقافة، أي من الأموال العمومية المتأتية من دافعي الضرائب، وغالبيتهم من فقراء هذا الشعب طبعا.
ثمة من “طالبي الدعم الثقافي” في تونس من قبض المبلغ وانبرى لتبديل عفش بيته أو تغيير سيارته، ونسي المشروع الذي قبض المال لأجله، يتركه إلى حين ميسرة، فالدولة في نهاية الأمر لن تودعه السجن. “والمال الداشر (السايب) يعلّم السرقة” كما يقول المثل العامي.
هذه العقلية الانتهازية التي تستهتر بأموال المجموعة الوطنية وتعتمد المحاباة والمحسوبية، تسربت إلى الوسط الثقافي الذي هو ليس بمعزل عن الفساد الإداري الناهش لجسد الدولة، وأضحت المسألة الثقافية في حاجة إلى إعادة هيكلة وتنظيم، مثلها مثل بقية قطاعات الدولة.
تقليص وإلغاء
مازالت وزارات الثقافة في الكثير من البلدان العربية بمثابة البقرة الحلوب أو الدجاجة التي تبيض ذهبا في ذهنية الانتهازيين والمتسلقين وعديمي الموهبة
أن تغدق الدولة على الثقافة بسخاء، هذا أمر محمود بل وضروري وبديهي، خصوصا في مراحل التأسيس وربط ذلك بالتنمية الشاملة والاستثمار في الإنسان، أمّا أن تستمر في تبديد الأموال العامة وضخها باسم الدعم الثقافي إلى المدعين والمزيفين فهذا ضرب من سوء الإدارة.
الأمر الآخر الذي يجب أن تنتبه إليه جهات الإشراف في المؤسسات الثقافية الرسمية في تونس والعالم العربي بصفة عامة، هو أن الشأن الثقافي قد تجاوز مرحلة الحضانة والرعاية من طرف الدولة، وقد آن الأوان أن يعتمد على نفسه في تدبير أمره من خلال البحث عن مصادر تمويل في القطاع الخاص والجمعيات الأهلية والمجتمع المدني، وحتى الجهات الأجنبية دون ارتهان للإملاءات السياسية وغيرها.
مازالت وزارات الثقافة في الكثير من البلدان العربية بمثابة البقرة الحلوب أو الدجاجة التي تبيض ذهبا في ذهنية الانتهازيين والمتسلقين وعديمي الموهبة.
ليس الأمر دعوة إلى إعلان القطيعة مع الدولة التي ينبغي أن تكون حاضرة، حاضنة، وذات عين ساهرة على الشأن الثقافي الذي يعد قطاعا سياديا بأتم معنى الكلمة، لكن الأموال المرصودة – على محدوديتها – تذهب إلى غير أهلها ومحلها.
لا نجانب النزاهة إن قلنا إن بلدا محدود الثروات الطبيعية مثل تونس يرصد كمّا لا بأس به من الموازنة العامة للنشاطات الثقافية، لكن المشكلة تكمن في سوء التصرف والتوزيع غير العادل لتلك الأموال في ظل غياب النزاهة والمعايير الفنية المحضة بعيدا عن المحاباة والكيل بمكيالين وأكثر.
صحيح أنّ النشاطات المهرجاناتية بمثابة القاطرة التنموية لما لها من إسهامات في الحركة السياحية وغيرها، لكنها ليست الغاية من الفعل الثقافي
الانحياز الإيجابي مطلوب طبعا، بالنسبة إلى المناطق الداخلية الأقل حظوة في التنمية الثقافية، وكذلك المشاريع الشبابية التي ينبغي أن ترى النور بعد هيمنة طويلة من قبل “ديناصورات” وأسماء كرستها المحسوبيات السياسية.
ومن المفارقات المبكية المضحكة أن الجهة التي تشرف على المهرجانات، صيتها ذائع ومهاب أكثر من الوزارة نفسها، وهي “المؤسسة الوطنية
لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية” التي أحدثت بمقتضى الأمر الحكومي المؤرخ في الثالث والعشرين يوليو 2015 في سياق تأمين دور ما كان يعرف سابقا بـ”اللجنة الثقافية القومية”.
ما يقارب 8 ملايين دولار هو المبلغ المرصود للمهرجانات وهو رقم يسيل اللعاب في بلد يشكو ضائقة مالية مثل تونس، لذلك تكثر طوابير المنتظرين والمتآمرين والمتهامسين والمتوددين في أروقة وزارة الشؤون الثقافية التونسية، عفوا “وزارة الشؤون المهرجاناتية”.
بعد كل هذا اللغط والضغط والشد والجذب، أليس الأجدر تقليص المهرجانات وإلغاء الدعم، والتركيز على الثقافة المخصبة المثمرة وحدها عبر مبدعيها الحقيقيين كغرس خال من الطفيليات؟