لماذا لا يمنح التونسيون قيس سعيّد فرصة كافية للتغيير

الدولة الاجتماعية التي تحمي الفقراء تحتاج إلى إعادة الثقة بأصحاب رأس المال والتوقف عن التعامل معهم على أساس أنهم انتهازيون يسعون إلى الربح.
الأحد 2022/07/24
حماس للتغيير

مؤشرات كثيرة تتجمع لتقول إن استفتاء يوم غد سينجح، وسيوافق التونسيون على الدستور، وأنهم سيمنحون الرئيس قيس سعيّد فرصة مريحة للتغيير وفق مقاسات جديدة تقوم على رئيس قوي يقدر على أن يوظف كل المؤسسات لتنفيذ مقاربته التي تم انتخابه على أساسها.

هناك مشروع واحد وكل الأدوات والوسائل والمؤسسات والإدارات مهيأة وجاهزة لتنفيذه. هكذا تسير أغلب الدول وخاصة السائرة في طريق النمو، والهدف هو خدمة الاقتصاد وتحسين أوضاع الناس وإخراج البلاد مما هي فيه من ظروف صعبة تجعلها مؤهلة أكثر من غيرها لأن تكون دولة فاشلة، حتى أنها صارت عاجزة عن سداد فاتورات لاستيراد الزيت والسكر وتأمين أقوات الناس من القمح والذرة في ظل الأزمة الغذائية العالمية.

عنوان المرحلة القادمة لن يكون سياسيا بل اقتصاديا واجتماعيا، فالبلاد لم تعد تحتمل المزيد من خسارة القوت. يكفي ما جربته خلال السنوات العشر الماضية من فائض في الديمقراطية والصراخ وحرية الحديث في كل شيء لمن يعلم ولا يعلم في غياب أي مساءلة قانونية عما ينشر، خاصة تلك التقارير التي كانت تصدر عن أسرار الدولة وتعرض في الفضائيات ومواقع التواصل محورا للنقاش، فضلا عن نشر حكايات وقصص بلا حصر عن أعراض شخصيات عامة لم تجد طريقا لاستعادة كرامتها والقصاص ممن أساؤوا لها وعرضوا وثائق وأسرارا كان يفترض ألا تغادر ملفات القضاء.

مثلما أن الشعب زكّى المنظومة القديمة، انتخبها وأعطاها الوقت الكافي لتجرب مرة أولى وثانية وثالثة، من العدل أن يزكي المنظومة الجديدة ويعطيها فرصة 

الديمقراطية التي همشت مصالح الناس وركبت على الثورة لن تكون موجودة. ستأتي ديمقراطية جديدة قد تكون أقل لمعانا ولا تسمع صراخها ولا ترى الكثير من مريديها الذين يقفزون صباح مساء من بلاتو تلفزيوني إلى آخر. لكن ستجد لها أنصارا كثيرين بين الناس فلسفتهم مختلفة عن فلسفة الديمقراطيين، لا تعنيهم المحكمة الدستورية ولا تقارب السلطات أو تنافرها.

ما يعني هؤلاء، وأغلبهم من الفئات الفقيرة وسكان الأرياف والأحياء الشعبية وخريجي الجامعات، هو وجود مشروع، وفي حالة تونس وجود شخص قيس سعيّد الذي وعد بأن يأخذ لهم حقوقهم من المفسدين وسيحد من تقافز السياسيين في المنابر، وأن قبلته ستكون خدمة الناس.

من حقه على التونسيين أن يمنحوه فرصة ليحكم، وينفذ أفكاره وخططه وتصوراته لتغيير أوضاعهم، بقطع النظر عن الأشكال والمسميات، المهم الوصول إلى نظام حكم قوي يضبط الأمور بحزم ويوفر للناس حياة كريمة، وهم سيكونون معه، كما فعلوا في حربه على الاحتكار وغلاء الأسعار خلال السنة الماضية.

صحيح أن هناك كثيرين يحقدون على السياسيين ويحملونهم مسؤولية تردي الأوضاع في البلاد، وأنهم فكروا فقط في أنفسهم وأحزابهم ولم يفكروا في من انتخبوهم ومن مهدوا لهم ركوب الثورة.

لكن النظام الناجح لن يكون هدفه تصفية الخصوم وتشتيتهم فتلك حيل الضعفاء، على أن يسير الناس كلهم على صراط القانون والمحاسبة. فمن تورط في ملفات فساد تبديد المال العمومي، أو اختراق الدولة بإغراق مؤسساتها بأنصاره، أو تورط في قضايا إرهاب أو تمويل خارجي وأثبتها عليه القانون عليه أن يحاسب، ومن ثبتت براءته استحق أن يستمر في نشاطه السياسي والحزبي والنقابي، لكن وفق مقاسات تكون الدولة فيها فوق الجميع تدافع عن حقوقها ولو بالقوة.

من حق قيس سعيّد أن ينفذ ما يريد طالما أن الشعب صوت له في انتخابات 2019 بأغلبية كبيرة، ومن المنتظر أن يزكيه في استفتاء الغد خاصة في ظل عدم اقتناع الشارع التونسي بالدعوة إلى المقاطعة الصادرة عن أحزاب وشخصيات كانت مؤثرة في المرحلة الماضية، ويحسب عليها الفشل وتوريط البلاد في أزمات كثيرة، وتبديد أموالها ووقتها.

صحيح أن آلية الإصلاح التي ينتظر أن يعتمدها قيس سعيّد خلال الفترة القادمة ستتعرض لانتقادات كثيرة إما من الخصوم الذين لا يعجبهم العجب في رجب وسيقفون لها بالمرصاد في كل خطوة، أو من الناس العاديين الذين يريدون إصلاحات سريعة تغطي كل مناحي الفوضى السابقة، توفر مواطن الشغل وتوظف خريجي الجامعات، وتحارب الفقر، وتضرب الاحتكار وتتحكم بالأسعار والتضخم، وتنفذ المشاريع المهملة خاصة بالنسبة إلى طرقات السيارة ومشاريع النقل المختلفة.

استفتاء

إذا كان الناس يعتقدون أن قيس سعيّد سيوفر هذه المطالب بكبسة زر واحدة، ومباشرة بعد فوز الاستفتاء بثقة الشارع، فهم واهمون لأن الإصلاحات تحتاج إلى وقت طويل، لكن الذي يفرق بين الحاضر والماضي، أن الحاضر يحتكم على رغبة في الإصلاح، والماضي لم تكن لدى المؤثرين فيه حكما ومعارضة رغبة في التغيير وركزوا على إدارة الصراع السياسي ووظفوا جهود الدولة فيه وهمشوا بقية المجالات.

هناك اختلاف في الرؤية والمقاربة بين من وظف الإصلاح لتحقيق مكاسب حزبية واختزل الديمقراطية في اللعبة السياسية، وبين من يضع أولويته الحرب على الفساد والاحتكار ومكافحة المافيا التي نجحت في التسلل إلى ملعب السياسة للتغطية على نفوذها المتعاظم.

ومثلما أن الشعب زكّى المنظومة القديمة، انتخبها وأعطاها الوقت الكافي لتجرب مرة أولى وثانية وثالثة، من العدل أن يزكي المنظومة الجديدة ويعطيها فرصة، ويتعامل معها بنوايا حسنة، فإن نجحت في تحقيق وعودها كان ذلك شيئا مطلوبا وإذا لم تنجح سيجد طريقه لإعادة تصويب أوضاعه بحثا عن صيغة أخرى لتحقيق مطالبه. على ألا تكون النوايا الحسنة صكا على بياض لأي شخص أو مؤسسة، فهناك مؤسسات مجتمع مدني قوية ويقظة كانت نجحت في السابق في منع تغول الإسلاميين ودفعتهم إلى تقديم تنازلات حقيقية.

ثقة الشارع السياسي والاجتماعي مهمة، لكن ثقة الناس أهم، لكن يمكن أن تنقلب هذه الثقة في لحظة غضب إذا توقف التغيير أو مال السياسيون إلى معارك هامشية خاصة ما تعلق بتثبيت أشكال السلطة ومؤسساتها، وأخذ ذلك وقتا طويلا وتزامن مع تهميش البعد الاجتماعي.

من حق قيس سعيّد أن ينفذ ما يريد طالما أن الشعب صوت له في انتخابات 2019 بأغلبية كبيرة، ومن المنتظر أن يزكيه في استفتاء الغد خاصة في ظل عدم اقتناع الشارع التونسي بالدعوة إلى المقاطعة الصادرة عن أحزاب وشخصيات كانت مؤثرة في المرحلة الماضية

ولأجل هذا سيكون الرئيس قيس سعيّد في وضع مختلف في المرحلة القادمة. الدستور الجديد سينهي تغول الأحزاب والنقابات ويعطي كل أوراق مواجهتها والضغط عليها وإرجاعها إلى أدوارها التقليدية. ومن ثمة لن يكون هناك مبرر لإعادة إنتاج خطاب المظلومية والشكوى من الدسائس والمؤامرات والغرف المظلمة.

الرئيس عليه أن يظهر للناس ليكشف عن خططه المستقبلية بعدما انتهى الخطر الداهم، وبدأت مرحلة الاستقرار. ماذا سيقدم للناس من خطط يتم العمل عليها لوقف تدهور الوضع الاقتصادي، ماذا غير الإصلاحات القاسية لصندوق النقد الدولي، هل سيقبل الرئيس بالتخلي التدريجي عن الدعم إلى حين إنهائه في خطة لا تتجاوز خمس سنوات. ماهي بدائل الدولة للتعويض عن رفع الدعم خاصة أن قائمة المتضررين ستصبح بالملايين، ولن تطول الفئات المصنفة حاليا كفئات فقيرة أو محدودة الدخل، حيث ستنضم الطبقة الوسطى في أغلبها إلى دائرة المتضررين.

كما أن الدولة الاجتماعية التي تحمي الفقراء تحتاج إلى إعادة الثقة بأصحاب رأس المال والتوقف عن التعامل معهم على أساس أنهم انتهازيون يسعون إلى الربح بدلا من مشغلين للملايين من التونسيين بعيدا عن إثقال كاهل الدولة وميزانيتها. ومثلما أن تونس دولة حقوق الفقراء فهي دولة حقوق الأثرياء أيضا، ما يعني المغادرة التامة لفكرة المصالحات التي تقوم فقط على أخذ أموال رجال الأعمال وإشعارهم وكأنهم ضد الثورة وضد السلطة وضد الناس مع أنهم عمود فقري لأي تغيير ورافعة أساسية للخروج من الأزمة الاقتصادية.

ما هي الخطط التفصيلية للاقتصاد الأهلي، هل الأمر مجرد تصور انطباعي يغلب عليه الحماس الأيدولوجي والرغبة في استنساخ تجارب لم تعمر ولم تحقق نتائج لافتة أم أن الرئيس والمحيطين به يمتلكون خططا تفصيلية لتشريك الناس في بناء اقتصاد تضامني يوزع عائداته على الجميع، ويتخلص من الصورة التقليدية لعلاقة الدولة بالناس لتصبح فعلا دولة اجتماعية.

أي رسائل سيوجهها الرئيس التونسي إلى الخارج بهدف دفعه إلى التخلص من تردد في دعم تجربة تونسية نجحت في التخلص من أخطاء الديمقراطية الليبرالية الفضفاضة التي تغرق الناس في الشعارات دون أن تقدم لهم شيئا.

الناس ستعمل ما عليها، والكرة في مرمى الرئيس قيس سعيّد وحكومته.