قيس سعيد، الطبوبي، والتجربة النقابية البريطانية

عندما تستمع لتصريحات أمين عام اتحاد الشغل التونسي نورالدين الطبوبي عن "شروطه" لقبول الحكومة التونسية قرض صندوق النقد الدولي، تعتقد أن الصندوق يقترض من اتحاد الشغل. آخر ما سيأتي في بالك أن المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد تتم كصفقة إنقاذ مالية تمنع تونس من أن تصبح لبنان آخر أو سيريلانكا ثانية. الوضع المالي في تونس، كما يتفق الجميع، وضع يقترب من خط أحمر، وأساس المشكلة هو ما تنفقه الحكومة من رواتب ودعم على الأساسيات. الصندوق، الذي في جيبه المال، لا يريد أن يمنح قروضا أو تسهيلات تنتهي رواتب فقط، وسرعان ما تتبخّر دون أن تغير أو تصلح آليات الإنفاق الحكومي. القروض من دون إصلاح اقتصادي تعني موعدا مستقبليا متجددا مع الصندوق لطلب المزيد من القروض. ثم من قال أن مهمة الصندوق دفع رواتب الموظفين الحكوميين في تونس، أو أن يحرص على دعم الوقود في البلاد لكي تعج العاصمة بكل هذه السيارات في شوارع مزدحمة في بلد ليس معروفا عنه بأنه ورشة عمل لمشاريع اقتصادية كبرى أو مقر لشركات خدمية تونسية أو عالمية؟
من السهل المطالبة بزيادة الأجور. ولكن هل يتوفر لدى الدولة ما يكفي من المال لدفع الأجور الحالية، دع عنك زيادتها؟
مفارقة شروط الطبوبي المعكوسة المعنى هي أن الاتحاد لا يعيش في هذا العالم. أن تطالب بزيادة في الرواتب بمقدار 10 في المئة في هذا الوقت، بغض النظر عن أحقيتها أو عدم أحقيتها، هي مطلب غير واقعي. العالم كله في تقشف. زيادة الرواتب اليوم – ضع جانبا ما يمكن أن ينعكس عنها من تضخم – تعني زيادة كتلة الإنفاق الحكومي من مال غير موجود أصلا. مطالعة بسيطة لحال الاقتصادات الكبرى وما تعانيه، يمكن أن تساعد الاتحاد في فهم التغيّرات الجذرية التي يعيشها العالم. في بلد صناعي وزراعي متقدم مثل ألمانيا، تؤجل النقابات العمالية والمهنية مطالباتها لحين انجلاء عاصفتي كوفيد وحرب أوكرانيا. زعماء النقابات يقرأون الصحف وأعينهم على المؤشرات الاقتصادية ولديهم من الوعي السياسي ما يكفي لفهم أن أي مطالبات الآن، وما قد يتبعها من إضرابات، هي وصفة لكارثة اقتصادية قد تهز ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد أوروبي.
قبل أيام، أعلن اتحاد نقابات التصنيع في بريطانيا عن خسارة 170 ألف وظيفة بسبب بريكست وكوفيد. كثير من الوظائف المتبقية تمنح العمال رواتب أقل عما كانت عليه قبل الأزمتين، أو تشغلهم لأيام أقل لكي تعطيهم مكافآت تعكس عدد ساعات العمل الأقل. التقشف سمة الوضع الاقتصادي الحالي في بريطانيا، والطوابير على بنوك الطعام في تزايد. موقف النقابات العمالية والمهنية في بريطانيا ذكي، لأن النقابات تدرك أن أي تحرك اليوم سيعرقل من إعادة عجلة الاقتصاد إلى الدوران، وسيستعيد أجواء السبعينات والثمانينات عندما أصرت النقابات العمالية على مواجهة الحكومة بمطالب لا تتوقف، قبل أن تجد نفسها في مواجهة مع الناس ممن سئموا الإضرابات.

لا تجاوب مع مطالب سكارغيل الذي انفك من حوله العمال لتعود الأمور إلى نصابها وتصبح تاتشر علامة للتغيير تعكس فهما مبكرا للتبدّلات الاقتصادية والسياسية في العالم
أقدّم لكم آرثر سكارغيل، الناشط النقابي في السبعينات والثمانينات ورئيس اتحاد نقابات عمال الفحم في بريطانيا لأكثر من 20 عاما. اتحاد الفحم كان من القوة لدرجة أنه استطاع إسقاط حكومة المحافظين برئاسة إدوارد هيث في السبعينات. كان مشروع الحكومة البريطانية هو إغلاق مناجم الفحم الخاسرة وتسريح العمال. الفحم هو أساس الثورة الصناعية للعصر الحديث والتي انطلقت من بريطانيا. ثمة قيمة معنوية كبيرة لمناجم الفحم وعمالها.
من هذه الأزمة، ولد تيار محافظ جديد تقوده مارغريت تاتشر. عندما وصلت إلى الحكم، بعد أن تدهور الوضع الاقتصادي في بريطانيا إلى درجة صار فيها كل شيء مهددا، بما فيه السلم الاجتماعي، قادت تاتشر ثورة محافظة غيّرت بريطانيا وتركت بصمتها على العالم. لم يفهم سكارغيل أن الدنيا بدأت تتغير، وقاد إضرابات عمال مناجم الفحم عامي 1984 و1985. تبعه العمال في البداية، ووصل الأمر إلى تقنين التيار الكهربائي بسبب نقص الطاقة المتولدة من الفحم. رد فعل تاتشر كان بسيطا. لا تجاوب مع أي من مطالب سكارغيل. دعه يهتف. دعه يرفع علامات النصر. وفي مرحلة يائسة، بدأ سكارغيل بالتحريض على العصيان المدني، فكانت الشرطة له بالمرصاد. انفك من حوله العمال، وعادت الأمور إلى نصابها. تاتشر الآن علامة للتغيير تعكس فهما مبكرا للتبدّلات الاقتصادية والسياسية في العالم. وسكارغيل انتهى اليوم علامة سياسية منسية في تاريخ بريطانيا الحديث. مع سوء تقديره، ضاعت قضية عمال مناجم الفحم. لا يوجد منجم فحم واحد اليوم في بريطانيا.
سيبقى البريطانيون يضربون ويتقدمون بمطالب. لكن الإضرابات لا تحدث إلا في سياق منطقي لا يقود إلى تعجيز البلد.
التجربة البريطانية مهمّة. في جانب منها، هناك صعود النمط المحافظ غير المساوم، وفي الجانب الآخر تآكل تأثير النقابات إلى حد الاختفاء. المطلبية النقابية غير الواقعية هي أول خطوة في مسار انهيار العمل النقابي.
سيبقى البريطانيون يضربون ويتقدمون بمطالب. لكن الإضرابات لا تحدث إلا في سياق منطقي لا يقود إلى تعجيز البلد
لا توجد مناجم فحم في تونس. لكن هناك قطاعات إنتاجية واسعة، منها الأحواض المنجمية للفوسفات. تسمع الكثير عن معامل غير منتجة. وثمة قطاعات خدمية حكومية كبيرة. في هذه البيئة الاجتماعية المعتمدة على الراتب الحكومي، والتي تضخّمت بشكل كبير عددا وإنفاقا بعد ثورة 2011، يعمل اتحاد الشغل ويستمد قوته. من السهل المطالبة بزيادة الأجور. ولكن هل يتوفر لدى الدولة ما يكفي من المال لدفع الأجور الحالية، دع عنك زيادتها؟ هذا سؤال يحتاج الطبوبي أن يسأله لنفسه قبل أن يزجّ الاتحاد في مواجهة مع حكومة بالكاد تستطيع موازنة تأثير 10 سنوات من تراكم أعداد الموظفين من غير المنتجين. ما تحتاجه تونس اليوم هو قوة دافعة وليس إلى قوة معرقلة.
تستطيع البلدان أن تعيش بلا اتحادات ونقابات. لكنها لا تستطيع أن تعيش بلا دولة. هذا يعني أن الدولة التونسية باقية بغض النظر عمّا تؤول إليه الحركة المطلبية التي يمثلها اتحاد الشغل. من الضروري أن يقدر الاتحاد أن عام 2022 ليس مثل عامي 2013-2014. العالم تغيّر ولم يعد مهرولا لشراء السلم الأهلي بقروض يقدمها صندوق النقد. الأزمات في كل مكان، وانفجار اجتماعي في بلد هنا أو بلد هناك لن يكون مهما كان بخطورة الأزمة الغذائية العالمية الحالية أو تذبذب سوق الطاقة أو حرب أوكرانيا. وما يقال عن علاقة تونس بالعالم، يقال عن الوضع داخل تونس. التونسيون يبحثون عن حلول. الإضرابات ليست على قائمة الحلول. ولا وهم أنك من توجه قرار صندوق النقد بعنادك.
ثمة خياران في تونس الآن. إما أن يقرأ الرئيس قيس سعيد تجربة مارغريت تاتشر في مواجهتها مع النقابات، ويسير في طريق إهمال اتحاد الشغل بالمطلق. أو أن يتعظ نورالدين الطبوبي، أو لا يتعظ، من خسارة أرثر سكارغيل كل شيء. خياران قد يتقاطعان بشدة.