هاي جاتك الرجالة

العروشية أو العشائرية تطل من جديد بأكثر قوة في بلاد كان أول ما فعلته بعد استقلالها أنها ضربت البعد القبلي والمناطقي وسعت لبناء هوية وطنية جامعة.
لم تعد المناطقية إلى الواجهة تحت تأثير السياسة بالرغم من وجود صراعات سياسية حامية في البلاد، فلا نجد أحزابا تمثل هذه المنطقة أو تلك، ولا وجوها سياسية تقيم في الجهات وتركز في خطابها على توظيف البعد القبلي أو المناطقي.. السياسة إلى حد الآن بالرغم من مختلف سوءاتها لم تخرق المشترك الوطني.
لكن فرق الكرة، التي تحمل عناوين جهوية، هي التي تحمل لواء الفرقة والصراعات المناطقية بشكل مكشوف يهدد بحرب أهلية حقيقية يغفل عنها السياسيون، لكنها تطل برأسها بين حين وحين، آخرها في منطقة المتلوي (محافظة قفصة - جنوب غرب)، حيث تظاهر جمهور الفريق المحلي احتجاجا على نزوله إلى درجة سفلى، وأوقف إنتاج الفوسفات وقاد إلى إضراب في مختلف المؤسسات الحكومية في المتلوي. والأمر نفسه في منطقة جرجيس (جنوب - شرق).
رئيس الاتحاد التونسي لكرة القدم وديع الجريء دخل بدوره حربا التصريحات الجهوية، ردا على اجتماعات عقدها وزير الرياضة كمال دقيش بفريق حمام سوسة، وفي ظل حملة ذات بعد جهوي تعتبر أن الجري الذي هو أصيل الجنوب يستهدف منطقة الساحل التي كانت تمثل مركز ثقل في السلطة ما قبل الثورة وترى نفسها الآن مهمشة بشكل متعمد.
الجريء وجه خطابا صريحا للوزير في تغريدة طويلة عريضة أنهاها بقوله "هاي جاتك الرجالة"، في خطاب يخفي بعدا جهويا جليا مفاده أن الجريء ليس نكرة ولا شخصا بلا حمية مناطقية، فهو من الجنوب الذي كان لرجاله دور كبير في مقاومة الاستعمار.
كل منطقة تخلق لنفسها تاريخا مشرفا وثقافة للافتخار تظهرها في موقف المتعالي عن المناطق الأخرى، وكأن لا أحد سواها قاوم أو له تاريخ قريب أو بعيد. وتجد صدى لهذا الانقسام المناطقي على مواقع التواصل الاجتماعي، وينفخ فيه بعض المنتسبين للأحزاب خاصة في الوقوف ضد الوزير الذي يريد أن يخترق إمبراطورية الجريء الذي يرفض أيّ مساس بها ويلوح دائما بالفيفا (الاتحاد الدولي لكرة القدم) وعقوباتها.
البطولات الشخصية تتمدد وتبحث لنفسها عن غطاء مناطقي، وتجد في التسريبات والإشاعات عنصرا داعما لها. لكن هذا المسار يحفر عميقا في الأزمة، ويجعل جماهير الكرة في حالة احتقان دائم، وهي جماهير متعصبة ترى في كل إشاعة حقيقة مطلقة حتى لو كان العقل لا يصدقها.
وشعار “هاي جاتك الرجالة”، أيا كان صاحبه على حق، أو كان يعبّر عن ضيم من “مؤامرات” خفية، فإنه يفرش طريق الحرب الصامتة التي تنخر المجتمعات وتعيدها إلى مرحلة ما قبل الاستقلال.
العشيرة أو القبيلة لم تعد شرفا ولا حمية كما في المجتمعات القديمة، هي عنوان للتفتيت والحروب الأهلية.