أشهر متحف تونسي ضحية الأزمة السياسية

لا تزال أبواب متحف باردو، شيخ المتاحف التونسية وأكثرها شهرة وثراء من حيث المقتنيات المعروضة داخله، مغلقة في وجه الزوار والباحثين والطلبة، فهو الضحية الثقافية الأكبر للأزمة السياسية الراهنة التي جعلت المتحف خارج الخدمة لمدة ثمانية أشهر منعا لأي محاولة لاقتحام مقر مجلس النواب الملاصق له.
يدفع متحف باردو الكائن على بعد 4 كيلومترات عن العاصمة التونسية منذ أشهر ضريبة الأزمة السياسية المستمرة في البلاد، حيث أوصدت أبوابه منذ الخامس والعشرين من يوليو الماضي في وجه التلاميذ والطلبة والسياح والمهتمين بالتراث الوطني والتاريخي والشأن الثقافي، وأخضع لحراسة عسكرية مشددة بسبب ارتباطه المباشر بمقر مجلس النواب.
ولم يسبق أن أغلق شيخ المتاحف التونسية وأكثرها شهرة محلية ودولية بهذه الطريقة؛ فحتى عندما اقتحمه إرهابيون في العام 2015 وشهد فاجعة خطيرة هزت العالم، حيث أفرغ الإرهابيون وابل رصاصهم في جسد 22 سائحا لقوا حتفهم إلى جانب العشرات من الجرحى، لم يستسلم المتحف أمام اعتداء الظلاميين على حرمته وتاريخه ولم يدخل في ظلام دامس ولم يوصد أبوابه طويلا أمام زواره التونسيين والأجانب رافعا شعار “ثقافة الحياة أقوى من الموت”.
واليوم أجبرت الأزمة السياسية المتحف على الإغلاق منذ أكثر من ثمانية أشهر فقط لأنه محاذ لمجلس نواب الشعب ويشترك معه في السياج الحديدي الخارجي.
وحتى بعد عودة الحركة السياحية إلى تونس، إثر انقطاع دام نحو سبع سنوات بسبب الحادثة الإرهابية وجائحة كورونا، لم يجد العائدون إلى تونس فرصة لزيارة المتحف الذي صار أيضا معلما تاريخيا شاهدا على الإرهاب الذي يستهدف تونس.
وتقتصر زيارة المتحف على المجال الافتراضي من خلال تطبيقتين للواقع المعزّز لدى محبّي الهواتف الذكية ومستعملي اللوحات الرقمية، إحداهما مخصصة للأشخاص الطبيعيين والأخرى مخصصة للمكفوفين، وتتيحان مشاهدة عدّة رسوم فسيفسائية بطريقة ثلاثية الأبعاد، أي رؤية المشهد متحرّكا مثلما كان في القديم بوضوح، وتوفر التطبيقتان معلومات عن المنحوتات والفسيفساء والمشاهد ثلاثية الأبعاد.
وفتح متحف باردو رسميا في السابع من مايو 1888، ويُعتبر ثاني متحف في العالم بالنسبة إلى فن الفسيفساء الرومانية بعد متحف فسيفساء زيوغما في تركيا، حيث يحوي تقريبا خمسة آلاف متر مربع من الفسيفساء، وهي من أجمل اللوحات المعروضة في العالم، إضافة إلى قطع أثرية نادرة جداً على غرار لوحة الشاعر الروماني فرجيل، التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي، وقد جرى اكتشافها في موقع أثري في “حضرموت القديمة” بمدينة سوسة في الساحل التونسي. وهو أيضا من أهم المتاحف في حوض البحر المتوسط وثاني متحف في القارة الأفريقية بعد المتحف المصري في القاهرة نظرا لثراء مقتنياته ومساحته المقدرة بـ20 ألف متر مربع.
ويتتبع المتحف تاريخ تونس على مدى عدة آلاف من السنين وعبر العديد من الحضارات من خلال مجموعة واسعة من القطع الأثرية، وهي الحضارات البربرية والفينيقية والوندالية والبيزنطية وصولا إلى الحضارة الإسلامية.
وكان يطلق على المتحف إلى حدود استقلال تونس اسم المتحف العلوي، نسبة إلى علي باي بن الحسين الذي حكم تونس من 1882 إلى 1902، في حين كانت منطقة باردو مقر إقامة البايات.
وأُغلق المتحف ليلة إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد عن الإجراءات الاستثنائية التي شملت تجميد اختصاصات مجلس النواب وغلقه ورفع الحصانة عن جميع أعضائه، وإقالة رئيس الحكومة، إلى جانب عدة إجراءات أخرى تهدف إلى الحفاظ على الدولة من “خطر داهم”، وفق توصيف الرئيس قيس سعيد.
وعبرت وزارة الشؤون الثقافية والمعهد الوطني للتراث مرارا طوال الأشهر الثمانية الماضية عن الرغبة في إعادة فتح المتحف، ولم ينظر بعد في المطالب المقدمة من الجانبين لإعادة افتتاح المتحف أمام طالبي العلم وحتى تعود إليه الحركية الثقافية والسياحية.
الأزمة السياسية تجبر المتحف على الإغلاق لأنه محاذ لمجلس نواب الشعب ويشترك معه في السياج الحديدي الخارجي
ويعتبر متحف باردو الشريان الحيوي لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية؛ فهو المموّل الرئيسي لميزانيتها إلى جانب القصر الأثري في الجم والموقع الأثري في قرطاج بنسبة تصل إلى حوالي 70 في المئة.
ورغم أنه من المتاحف التقليدية التي لم تنسق بعد وراء موجة الابتكار والإبداع التكنولوجي الممزوج بالفنون، كان المتحف قبلة الكثير من السياح وكذلك التلاميذ والطلبة والباحثين، وتفيد آخر إحصائيات للوكالة في يناير الماضي بأن الخسائر المادية للمتحف جراء الغلق وانعدام الزوار بلغت حوالي مليونَيْ دينار.
كما ظلت القطع الأثرية والمجسمات واللوحات الفسيفسائية النادرة دون صيانة خلال أول شهرين من إجراءات يوليو، ثم سمح لبعض العملة ولفرق الصيانة بالدخول إلى المتحف عدة مرات في الأسبوع وتعهد المعروضات بشكل دوري. وسبق أن نددت وكالة إحياء التراث بأن موظفي المتحف يتقاضون مبالغ كبيرة وفي المقابل لا يباشر أغلبهم عمله، داعية إلى توجيههم للعمل في مؤسسات أخرى في حال استمر إغلاق المتحف.
ولا يعرف بعد لمَ يدفع المتحف فاتورة إغلاق مجلس النواب التونسي، إذ لا تعدّ إعادة فتحه للعموم إمكانية تتيح لنواب المجلس المجمد الذي حلّه الرئيس قيس سعيد مؤخرا الدخول إلى مقر البرلمان، إذ أن منافذ المتحف عديدة ويمكن الاقتصار على منفذ وحيد للدخول تسهل مراقبته، كما أنه يمكن العمل على الفصل النهائي بين مقر المتحف ومقر البرلمان بجدار عازل وهو أمر ممكن ولا تصل تكلفته إلى مقدار ما يسببه الإغلاق من خسائر.
ولطالما كان المتحف ضحية البرلمان، فعند زيارة رؤساء أو شخصيات رسمية يتم غلقه، وتقف السياسة في كل مرة عقبة في طريق الثقافة ومحبيها. فهل يقع رفع التجميد عن المتحف حتى لا يدفع من جديد ثمن أخطاء السياسيين ولعبة السياسة أم سيظل كبش الفداء في الأزمة السياسية الراهنة؟

☚ متحف باردو يعتبر ثاني متحف في العالم بالنسبة إلى فن الفسيفساء الرومانية بعد متحف فسيفساء زيوغما في تركيا