الفن يبني الحياة ويغذي الحاجات التعبيرية للإنسان

البحريني أحمد عنان يستكشف أمكنة متقاربة زمنيا.
الأربعاء 2022/03/02
خربشات عبثية مثيرة للجدل

يدرك الفنان التشكيلي أحمد عنان أن تنوع المدارس الفنية هو أساس الإبداع في الفن التشكيلي لذلك نجده يضخ دماء جديدة في كل تجربة من تجاربه، ومن الطبيعي أن يأتي كل معرض له بدماء جديدة، لكن بزمرته، زمرة فن إيجابي يركز على الجمال والمرأة كأيقونة له.

حين يوجه الفنان التشكيلي البحريني أحمد عنان نداءه إلى أصدقائه الفنانين “لاستغلال أسطح منازلهم وتحويلها إلى غاليريهات لما تسهم به هذه المساحات الفنية من إغناء للحركة التشكيلية البحرينية”، فهو يوجه رسالة مهمة مفادها أن الفن يبني الإنسان والمكان معا، يبني الحياة بالشكل الذي يجب أن يكون حيث الجمال والحب والشفافية تحلق فيها وفي كل تفصيلاتها.

ويوحي نداؤه بأهمية الفن وما يقدمه من طروحات تغذي الحاجات التعبيرية للإنسان، وتعمل في تنقية الروح كأحد أهم أقطاب الجمال، وفي رفع سوية المجتمع بالنظر إلى القيم المعرفية والجمالية التي يزرعها، كما يوحي بحجم الحب الذي يحمله أحمد عنان للون والريشة وللفن عموما، وهو من وجهة نظر خاصة به يبرز تلك الأهمية لفعله وما أبدع وبأن التوقف عند حدود العمل الفني أمر محال.

والعمل الفني لدى عنان مفتوح على الآفاق وإلى اللانهاية، وهناك ما يميزه من لون وشكل وملمس، بل هناك ما يميزه من لغة ومهارة وذاكرة تعج بالمكان بعناية استكشافية، وهو المكان الذي يكتسب قرابة زمنية أيضا مع إسهام خاص من قبل الفنان ذاته في تقديم أحكام جمالية وفعلية تحاكي ذهن المتلقي، تثيره لا لتزيد الجانب الانفعالي فيه ولا لتوقظ التراجيديا النائمة بين أسراره، بل لتطهر الطريق التي بها ستسرد تلك الأسرار وهي تحتك بالعمل الفني وما فيه من فعل محرض يقوم بفعلي الهدم والبناء في الوقت ذاته دون إشفاق وخوف.

روح الطفل الساكنة فيه تمنح الفنان التشكيلي البحريني أحمد عنان جرأة يفلح فيها فيدخل عوالم دون إذن أو "دَسْتُورْ"

هنا يبرز التعاطف بين المحاور التي تبدأ بالظهور، بين التوقعات التي يخرج بها المتلقي، وبين استجابات العمل الفني، والتقاطع بينهما هو عملية جديدة لإعادة إنتاج العمل حسب ما تقتضيه إدراكات المتلقي ومدى أفق توقعاته ودرجة مشاركته في ذلك التقاطع، أي أن المتلقي هو الذي يحقق إنجاز العمل وبنيته، فما تلك الإشارات الظاهرة منها والباطنة التي يتلقاها إلا احتمالات ضمنية وخصائص غير مألوفة تماثل المناجاة الطويلة للعمل الفني.

وبعيدا عن أي انحياز، فالمشهد البصري الذي يحييه أحمد عنان يزاحم تلك المشاهد البصرية التي تُرَوّج لها كثيرا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعية، والقنوات الإعلامية المختلفة، فعنان بحق بركان لوني، يقترب من بؤر الانفجار في أكثر الأحيان، ضمن علاقات شكلية خاصة بوصفها شرطا ضروريا للانفجار، تتآلف مع تقاطع خبرته بإدراكاته الحسية، وهذا ينشط ذاكرته التشكيلية ويمنحها الدفع اللازم والكافي لرسم ملحمته الداخلية على الأقل.

وعنان لا يحتار في اختياراته اللونية، فليس مهما ذلك التناسق الذي يبحث عنه الأكاديميون، ولا تلك التدرجات في معطياتها الرسمية، همه أن يرسم كالطفل، وهو ممتلئ بعفويته، ببساطته، يقترب من قماش اللوحة دون قلق، لا يضع أي اعتبار لآراء الآخرين، فهو يرسم بالشكل الذي يريحه، ويقدم عمله في هذا المنظار دون رتوش ودون قيود، فروح الطفل الساكنة فيه تمنحه جرأة يفلح فيها فيدخل عوالم دون إذن أو دستور.

إنه ينتمي إلى عبثية الطفل وخربشاته المثيرة للجدل، فعمله لا يتطلب أي نوع من التوازن، ولا أي شكل من أشكال الامتداد في المنطق، فقط همه التجريب والبحث المستديم، وهذا ما يجعل تجربته تتصف بالإثارة.

ويحرك أحمد عنان الماء الراكد في البحيرة التشكيلية البحرينية، ويخلق دوائر كثيرة حولها كل منها تدعو إلى كسر الرتابة وفتح الحوار بين الأقطاب الفاعلة فيه، فجملة مؤشراته تقول بالتمايز في تكويناته ومفهوماتها، وبحسه الذي يجعل من سطح العمل ألحانا مهمة يسيل عليها وحي موسيقي قادم من ذاكرته البحرية حيث الصدف الصغيرة والأحجار وترسبات التراب البحري.

المرأة محور الحياة في لوحات عنان
المرأة محور الحياة في لوحات عنان

وفلسفة الفنان الخاصة في صناعة اللوحة واقترابه من تفاصيلها بإحساس تصويري أمر يدفعه بالضرورة إلى البحث عن عوالم جديدة، بأبعاد جديدة، إليها يدخل عنان بإمكاناته الكبيرة وبقدراته الحقيقية، وبروحه البسيطة، حيث تنصاع لريشته كل الجوانب المتمردة، وكل الظواهر الجديرة بالاهتمام، والنتائج بالضرورة ستكون مكثفة ومستمرة في الحاضر، فهو لا يلاحق الأحداث الكبيرة ولا يبحث عن ظلال وارفة كي يتفيّأ تحتها، بل يبحث عن المفارقات التي قد تلد بين المستويات الفنية وهي تتداخل بمعطياتها المختلفة مع الأشياء محاولة فك عقدها.

ولضرورات فنية قد يصمت عنان برهة بعيدا عن ضجيج الصالات وملصقات الإعلان وما يحيط بهما، حينها يكون المخاض في آخره، وهو على باب تجربة جديدة سيتحفنا بها في معرض قادم، فكل معرض له أشبه بديوان شعري أو برواية إن لم يكن مغايرا ولم يلخص تجربة جديدة له فالأولى ألا يكون.

كثيرون من الفنانين التشكيليين اشتغلوا على المرأة بل يكاد لا يوجد فنان إلا واشتغل عليها، لكن المرأة في لوحات عنان مختلفة، فهي بالنسبة إليه نبض الحياة وجنتها ووجودها في العمل الفني أشبه بالروح للجسد، فهي التي تمنح العمل حركة وإيقاعا وموسيقى، وهي التي تجعل العمل مخضرا بالعواطف والانفعالات الجميلة. ويذهب عنان إلى الماضي البعيد والقريب، مستحضرا حاله حين كان يرافق المرأة وهو طفل صغير إلى عين أم شعوم القريبة من قريته التي ولد فيها، فيقوم النسوة “بغسل الملابس فيها ونشرها على أغصان الشجر”، هذه الصور لم تبرح ذاكرته بل تكاد تتحول إلى خزانها وصندوقها الأسود، وهذا ما يدفعه إلى الاشتغال على المرأة بثراء لا ينضب، فمنذ بداية التسعينات من القرن الماضي كانت المرأة حاضرة بقوة في عمله فكما كانت تلهمه كانت تتحول إلى ثيمة مهمة في مجمل أعماله، وخصها بأكثر من معرض.

وفي الأول كان يركز على الخصر كأبرز أماكن فتنة في المرأة به يبرز الجانب الممتلئ للمرأة وضخامة الأرداف وما يحيط بها كشواطئ تظهر جمالها الحافل بالحس وسر اللحظة، وفي معرض “خفاء وتجلي” 2016، كان أكثر مغامرة في اقترابه منها ومن عوالمها، فهذه المرة حاول أن يظهرها ككائن مهم جدا بل تكاد تكون هي محور الحياة حين بدأ يرسم دائرته لها ويرميها فيها حتى تظهر بينة تماما، فتضج الدائرة بالتناقضات التي تلد والتي ستطفو بعضها على السطح والبعض الآخر يستقر في الأعماق.

هذا التناقض هو الذي سعى إليه عنان ونجح في صياغة فصوله تماما، فلا نكاد نمعن النظر في أي عمل له من تلك المجموعة إلا ونلتقط ذلك التناقض برهافة وحب، فبخلق هذه المفارقات غالبا ما يبحث عن اتجاهات جديدة تقوم على أساس رؤيته الفنية بخصائصها الحسية، وإمكاناتها التعبيرية، فهو حين يبعث الروح الجديدة في المرأة، يحرر عمله من دوره الخاص لأنه متيقن بالمقولة الدارجة بأن الرؤيا لا تعني التسجيل الصادق، بل هناك حاجة ماسة ودائمة إلى التجدد والتغيير، وهذا ما أدى إلى ظهور حركات وتيارات ومدارس مختلفة للحركات الفنية.

اختيارات لونية متناسقة
اختيارات لونية متناسقة

14