مجتمع شاب.. معارضون عواجيز

مجتمع أغلبه من الشباب يريد قيادات قريبة منه ومستوعبة لمطالبه وإمكانياته وقادرة على التواصل معه دون عقد وبعيدا عن الاستقطاب السياسي فهل تقدر على ذلك معارضة قديمة أغلبها من العواجيز.
الجمعة 2022/02/25
محاولات يائسة

أعادت المعارضة التونسية التقليدية تجميع نفسها لمواجهة ما تسميه بانقلاب قيس سعيد، وباتت تعقد اللقاء الإعلامي تلو الآخر، وتحث على لحق بعض الأسماء التاريخية بتحالف المعارضين من حول حركة النهضة الإسلامية.

الملاحظة البارزة هنا أن هذه المعارضة هي معارضة قديمة منذ عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وفيهم من كان معارضا في عهد الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة، يعني حسابيا أغلبهم فوق السبعين. وهذا يطرح مشكلة حقيقية بالنسبة إلى خطاب هذه المعارضة وبرامجها، ومدى قدرتها على الاقتراب من مشاغل الناس، وهل أنها فعلا يمكن أن تكون معارضة مؤثرة وهي تعتمد آليات قديمة لتحديات مغايرة جذريا.

في عهد بورقيبة ولاحقا بن علي كان نضال المعارضة الرئيسي يتعلق بالحريات السياسية، أي حق المعارضين في أن يعقدوا مؤتمرات صحافية يكون محورها الأول والرئيس هو انتقاد أداء السلطة السياسية وتسجيل نقاط ضدها بخطاب كان محوره رفع سقف النقد بشعارات أيديولوجية جاهزة لتلقى صدى لدى الشباب الذي ما يزال بعضه واقعا تحت سحر الأفكار الثلاث الكبرى (الشيوعية، القومية، الإسلام السياسي).

في زمنها، زمن الخطابات والمثل الأيديولوجية لم تكن المعارضة تمثل مشكلة حقيقية للنظام السياسي، ولو أقدم بن علي بصفة خاصة على نصف خطوة بالانفتاح على بعض المعارضين وتمكينهم من عقد اجتماعات ومؤتمرات صحافية والكتابة على صفحات الصحف، لكان أغلب هذه الأسماء قد اندثر لكونه يحمل في حقيبته عددا محدودا من الشعارات يكررها في بياناته المستمرة.

هل مازالت مطالب الحريات العامة والخاصة قادرة على استقطاب الناس في العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين؟ هل مازالت الأفكار الكبرى تغري الشباب بالاستماع لها وتصديقها ثم تبنيها لاحقا والنضال لأجلها؟

لا أحد في هذه البلاد يريد مغامرة سياسية جديدة تسلم زمام الأمور لشيوخ متقدمين بالعمر من أجل أن يحققوا أحلامهم ويروا أنفسهم في السلطة

الحقيقة على الأرض تقول العكس تماما.

لقد جرب التونسيون عشر سنوات كاملة من فيض الكلام عن الحريات، ووقفوا على تمثل مختلف التيارات الكبرى لها. كانت صدمة حقيقية بالنسبة إلى الناس الذين تعاطف الكثير منهم مع سرديات المظلومية التي صاغها الإسلاميون واليساريون في عهد بن علي ليجدوا أن القصة كلها ليست أكثر من شحنة كلام تم تفريغها بعد الثورة، ولم تكن تحمل برامج ولا بدائل، والأسوأ أنها قادت البلاد إلى أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية لم تشهدها منذ استقلالها في 1956.

وفضلا عن غياب البدائل والمشاريع، فإن الثورة جعلت التونسيين يقفون على حقيقة أخرى، وهي أن التحالفات التي تمت بين مختلف المعارضين مثل جبهة الثامن عشر من أكتوبر 2005 لا تمتلك أي مشترك يمكن الاعتماد عليه تكتيكيا أو استراتيجيا. فقبل انتخابات 2011 تفرق الأصدقاء القدامى وكل بات يقدم نفسه كبديل مستقبلي حتى وإن كان حزبه كربونيا وأحيانا كثيرة لا يظهر منه سوى اسم زعيمه ومرافق أو مرافقة له.

من ذلك أن حركة النهضة بادرت إلى التخلي عن القيادي والمعارض التاريخي نجيب الشابي بجرة قلم وأحرقت ما بين الطرفين من بيانات ومواقف مشتركة. لقد عبرت به الطريق إلى كرسي الثورة وتركته وراءها، وبحثت عن حليف محدود الإمكانيات والعلاقات مثل المنصف المرزوقي لتتولى لاحقا التخلي عنه وبناء تحالف “توافقي” مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ومقياسها الوحيد في كل تلك التحالفات هو قدرة الحليف على خدمة أجندة الحركة ولعب دور الواجهة الذي يوحي بأن النهضة متعففة عن السلطة ولا تلهث وراءها.

هل ستقدر حركة النهضة اليوم على كسب ثقة الشابي والمرزوقي مجددا في وقت تحتاجهما فيه من جديد ليكونا واجهة أخرى لأجنداتها التي لا تتوقف. هي تحتاج الآن لأن تقنع الغرب بأنها ليست المعارض الوحيد للرئيس سعيد، وأن معها أسماء تاريخية وازنة، وأسماء علمانية، في مسعى لاستثمار برود علاقة سعيد ببعض العواصم الغربية ودفعها إلى الضغط عليه أكثر من أجل العودة إلى مؤسسات ما قبل إجراءات الخامس والعشرين من يوليو، وأساسا عودة البرلمان إلى النشاط واستعادة رئيسه راشد الغنوشي لشرعيته.

تونس لا تحتاج اليوم إلى المزيد من الكلام والتجارب والوعود ولا إلى تعدد الرؤوس والشرعيات، هي فقط تحتاج إلى من يقدر على الفعل ويبادر إلى الإصلاحات

ظهر الغنوشي مع الشابي في مؤتمر صحافي “تضامني” مع القيادي في حركة النهضة نورالدين البحيري الذي ما يزال موقوفا منذ قرابة الشهرين، وتبادلا النكت والمجاملات، وكال الشابي المديح للنهضة بعد أن هاجمها في أوقات سابقة وحذر من التحالف معها معتبرا أنها “تمثل طائفة عقائدية عابرة للبلدان ولم تبد سوى رغبة في التمدد داخل الدولة وتحويلها إلى أداة لتنفيذ مخططاتها، وبالتالي هي تمثل خطرا على الديمقراطية”.

لكن السؤال الأهم الآن: ماذا يمكن أن تقدم هذه المعارضة في 2022، وهي التي تضغط لدفع سعيد إلى مراجعة قراراته وإجراءاته التي قادت إلى مركزة القرار بيده؟

والسؤال هنا مشروع لاعتبارين، الأول أن التونسيين جربوا حكم هذه المعارضة في السنوات الماضية ولم تقدم لهم شيئا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وأن كل ما فعلته أنها أغرقت البلاد في صراعات سياسية أثرت على تماسك الدولة وتركيزها ما فتح الطريق أمام تسلل الإرهاب وانتشار الفساد والفوضى.

هل أن نجاح النهضة في إحياء جبهة معارضة بن علي (الغنوشي، نجيب الشابي، المرزوقي، ومحمد عبو) سيعني أن الهدف هو العودة إلى فوضى 2012 /2021 وتعطيل أي مسار لإصلاح ينتظره الشباب خاصة ما تعلق بالإصلاحات الاقتصادية العاجلة التي ستوفر أرضية ضرورية للتغيير وتقود إلى بداية الحل بالنسبة إلى توفير مواطن العمل لخريجي الجامعات وتساعدهم على البقاء في البلاد بعد أن دفعتهم فوضى العشرية الماضية إلى الهجرة بشكل منظم أو بطرق غير قانونية.

مجتمع أغلبه من الشباب يريد قيادات قريبة منه ومستوعبة لمطالبه وإمكانياته وقادرة على التواصل معه دون عقد وبعيدا عن الاستقطاب السياسي. فهل تقدر على ذلك معارضة قديمة أغلبها من العواجيز وممن لا علاقة لهم بالدولة، لم يعملوا ضمن مؤسساتها، ولا خبروا طريقة عمل الإدارة وثقافتها وشروطها، فكيف سيقدمون البدائل ويسطرون برامج قادرة على الحياة.

لا أحد في هذه البلاد يريد مغامرة سياسية جديدة تسلم زمام الأمور لشيوخ متقدمين بالعمر من أجل أن يحققوا أحلامهم ويروا أنفسهم في السلطة ويضيفوا إلى سيرهم الذاتية نجمة جديدة.

تونس لا تحتاج اليوم إلى المزيد من الكلام والتجارب والوعود ولا إلى تعدد الرؤوس والشرعيات، هي فقط تحتاج إلى من يقدر على الفعل ويبادر إلى الإصلاحات ويعيد الثقة مع المؤسسات المانحة ومع المستثمرين من أجل أن يعيد ماكينة البلاد إلى الدوران والإنتاج.

9