هل فعلا لا يمكن إصلاح القضاء في تونس

مع تواتر الكشف عن اتهامات جديدة لعدد من القضاة، وآخرها ما جاء في المؤتمر الصحافي لهيئة الدفاع عن المعارض السياسي شكري بلعيد الذي قتل في فبراير من 2013، تزداد الشكوك في إصلاح هذا القطاع الحيوي في تونس بسبب الاختراق الواسع من لوبيات سياسية واقتصادية وتحوله إلى خندق يتمترس به معارضو سياسة قيس سعيد في تفكيك المؤسسات وإعادة بنائها بقوى وشخصيات لم تتورّط في الفساد.
لكن اللافت أن هناك دوائر محسوبة على القضاة تجد في الحديث عن اختراق واسع لقطاع القضاء لتقول انظروا إن القطاع مخترق بالكامل، وأن لا جدوى لهذا التفكيك، فهو سيجد نفسه كمن يعيد اختراع العجلة، أي أن قيس سعيد لن يجد أكثر من قضاة فاسدين يستعملهم في معركته للوصول إلى مجلس أعلى للقضاء متماشٍ مع خطته وراغب في الإصلاح وفق مقاساته ومساره.
وتعتقد أوساط سياسية تونسية أن إشاعة خطاب التيئيس من الإصلاح بالحديث عن أن بيئة القضاء موبوءة، وأننا لسنا القطاع الوحيد الفاسد، وأنظر الأحزاب واتحاد الشغل، ومختلف المنظمات والمؤسسات التي يسيطر عليها الفساد وتفوح منها رائحة الرشاوى والمحسوبية والولاء السياسي، هدفها تيئيس الرئيس سعيد ودفعه إلى التراجع والرضا بالأمر الواقع والتعامل مع الهياكل القائمة كقدر مفروض ومن ثمة السكوت عن الفساد وإغماض العينين عن اللوبيات وتحركاتها.
ستقوم خطة هؤلاء الذين يفقدون نفوذهم ومزاياها بحل المجلس الأعلى للقضاء على التمسك بالموقع والعناد، والظهور الإعلامي الدائم الذي يصورهم في مظهر الضحية، وكذلك نسف الثقة بزملائهم الآخرين ممن سيبقون يمارسون مهمتهم، وسيجدون المدد في جمعيات قطاعية أخرى مثل القضاة الشبان لمواجهة عملية التفكيك.
لكن الهدف الأخطر من كل ذلك هو تيئيس الناس في التغيير، وإقناعهم بأن قيس سعيد مثله ومثل غيره لا يقدرون على فعل شيء، وأن الشعارات شيء والواقع شيء آخر تماما.
لا يستمع المانحون كثيرا لجدل مواقع التواصل، ولا لبيانات منظمات حقوقية تقتات من بياناتها، هم فقط ينظرون إلى قدرة قيس سعيد على التغيير الحقيقي
وخطورة هذا التمشي ليس فقط إسقاط صورة قيس سعيد كرجل نظيف باحث عن التغيير ومتمسك بالحرب على الفساد ومواجهتها في العلن، بل إسقاط فكرة التغيير من أصلها، ودفع الناس إلى ترك الشأن العام والانغلاق على أزماتها المعيشية والرضاء بما هو قائم وفسح المجال أمام اللوبيات لإعادة هندسة المشهد وفق مصالحها وتغيير السياسيين وفق هذه القاعدة: من سعى للتغيير نؤلّب عليه الناس والمؤسسات والمنظمات في الداخل والخارج، ومن قبل بالأمر الواقع نمهّد له طريق البقاء.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا قيس سعيد وليس غيره ممن ثارت بوجهه هذه اللوبيات.
الإجابة ببساطة أن الرئيس سعيد سعى للتعامل مع مختلف اللوبيات بمنطق أنا الرئيس المنتخب وصاحب الشعبية العالية، وأنا أغيّر على الطريقة التي أريدها، ورفض أفكار التغيير و”خرائط الطريق” الجاهزة التي يراد له أن يدخل من خلالها إلى بيت الطاعة ويصبح جزءا من المنظومة الخفية التي تسطر وتهيئ ويأتي السياسي لينفذ دون نقاش.
في المقابل، جاءت حركة النهضة الإسلامية بخطة واضحة للاندماج في المنظومة القائمة وإظهار التفاهم معها على أمل أن تمهد تلك المنظومة الطريق للنهضة للسيطرة على كل شيء بعد أن تكون قد جمعت كل أسباب التمكين. وهذا ما يفسر الضجة التي تحاط حولها في كل مرة والاتهامات التي توجه لها والشكوك بشأن علاقتها بلوبيات الفساد.
قد تكون حركة النهضة قد حققت لنفسها مكاسب من بينها نيل رضا المنظومة القائمة والعمل تحت إمرتها ومعرفة خباياها وشبكاتها، والسعي لتطويعها لحماية الحركة وتنفيذ أجنداتها الظاهرة والخفية، لكنها ساهمت بشكل أو بآخر في تيئيس الناس من التغيير ودفعهم إلى التعامل مع السياسيين على أنهم فاسدون كلهم ولا يُرجى منهم خير، وهو ما دفعهم إلى الرهان في كل مرة على شخصية جديدة على أمل أن تختلف عن سابقيها.
ورغم الحملات التي تخاض ضده صباح مساء وضغوط الداخل والخارج، فإن قيس سعيد يحصل إلى الآن على أعلى نسبة توقعات بالنجاح في انتخابات رئاسية قادمة سواء أكانت في موعدها العادي 2023 أو جاءت مبكرة قبل ذلك. والسبب أن الناس تتمسّك به كبديل في وجه منظومة وسمتها كلها بالفساد حتى لو كان الكثير منها براء، ولكن اندماجها في منظومة الفساد ووضع نفسها تحت ذمتها جعلاها آليا غير صالحة لإحداث التغيير في المستقبل.
ومن المهمّ الإشارة إلى أن معركة قيس سعيد مع القضاء ليست كلها بسبب رغبته بتغيير المجلس الأعلى للقضاء، فهذه نتيجة لما سبقها، ذلك أن المجلس الأعلى للقضاء ومختلف الهياكل النقابية للقطاع تحركت كلها كعش دبابير بوجه محاولة الرئيس سعيد التعامل مع الواقع كرئيس جمهورية من حقه أن يعرف ما يجري ويبدي فيه رأيه ويأمر بتغييره في نطاق الصلاحيات التي أحدثها مرسوم 117. لكن القضاة رفضوا المساس بما بات يسمّه قيس سعيد بالدولة داخل الدولة.
الهجوم المكثف على قيس سعيد في موضوع القضاء هدفه الرئيسي منعه من الاقتراب من هذه الدولة وعدم المسّ بالمكاسب التي حققتها لمنتسبيها
وللحقيقة، فإن الهجوم المكثف على قيس سعيد في موضوع القضاء هدفه الرئيسي منعه من الاقتراب من هذه الدولة وعدم المسّ بالمكاسب التي حققتها لمنتسبيها من خلال الضغط على الدولة أيام ضعفها وتحصيل مزايا كثيرة، وخاصة تسليم الدولة بأن دورها يقف عند أسوار الجمهورية المستقلة للقضاء، فهي تزيد في الرواتب والعلاوات لكن ليس من حقها التساؤل عما يجري داخل القلعة، ولا تقترب منها بإثارة ملفات الفساد أو المحسوبية أو الرشاوى، فذاك يصبح كما لو أنه تعدٍّ عن الحدود وتدخل في شؤون دول الجوار.
وليس القضاء وحده من بنى هذه القلعة أيام ضعف الدولة وحكوماتها المتتالية، فكل القطاعات ما بعد 2011 بنت هياكل لتكون بمثابة أذرع في مواجهة الدولة، ولا أحد يمكن أن يتنازل بالحوار عن مكاسب حصل عليها بالضغط. ولهذا مر قيس سعيد إلى تفعيل المراسيم التي تتيح حل هذه المؤسسة/ الدولة أو تلك، وإعادة تركيبها من الداخل بالرهان على أناس شرفاء من القطاع، وهذا شرط الإصلاح. فلا إصلاح تكون الدولة فيه في موقع ضعف.
كما أنه لا يمكن الحديث عن إصلاح في وجود اللوبيات القطاعية التي ترهن قرار الدولة لمصلحتها بدل أن تكون القطاعات عناصر قوة في نجاح الدولة وخططها خاصة حين تكون هذه الدولة في حالة أزمة حادة وتريد تجميع عناصر قوتها للنهوض من جديد وتعبئة مواردها الداخلية لإظهار أنها قادرة على الإيفاء بتعهداتها للمانحين الأجانب سواء كدول أو كمؤسسات مالية دولية.
ورغم الحملات التي تستهدف كل خطوة يقوم بها قيس سعيد بحل مؤسسة مثيرة للغضب الشعبي أو ترفض التعامل مع الدولة إلا وفق شروطها، لا يزال المانحون يأملون في أن تكون تونس قادرة على الخروج من أزمة وضعتها فيها أحزاب ومنظمات فكرت في مصالحها الخاصة وفي تركيز نفوذها سياسيا قبل أن تفكر بالدولة والضرر الذي يلحقها.
لا يستمع المانحون كثيرا لجدل مواقع التواصل، ولا لبيانات منظمات حقوقية تقتات من بياناتها، هم فقط ينظرون إلى قدرة قيس سعيد على التغيير الحقيقي في المجال الاقتصادي والاجتماعي. لا أحد يتباكى على الديمقراطية والبرلمان طالما أن هذا البرلمان قد ساهم في تأزيم الأوضاع، والكرة الآن عند قيس سعيد والحكم له أو عليه سيكون حسب اتجاه تلك الكرة.
ستتسع دائرة الغاضبين من قرارات الرئيس سعيد بحل المؤسسات المثيرة للشكوك والشكاوى، وقد يتحالف ممثلوها، وهذا متوقع. المهم هو تسويق قرارات الرئيس سعيد للخارج على أنها خطوات ضرورية لإصلاح يسبق أي إصلاح اقتصادي.