الجسد الصوفي.. جسد مجتاز بين الفيزياء والخطاب

طوق إخوان الصفا فلسفة من الماضي البعيد إلى المستقبل.
الأحد 2022/02/06
إخوان الصفا اعتبروا آلة العود انسجام العالم وتناسبه وجماله (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

التراث العربي والإسلامي زاخرٌ بالعلوم والآداب والفنون والفلسفة، وما تركه لنا الأسلاف زاخر بالمعرفة والتجديد والابتكار والإبداع. وليست الفلسفة بمعزل عن كل هذا النشاط مع تعاقب العصور، ودليل ذلك انتشار العلوم الوضعية منها أو المترجمة التي نُقلت عن لغات أخرى، والتي كان يجيدها بعض العلماء العرب كاليونانية التي عُرف بها الفارابي. ونصل لاحقا إلى أفكار إخوان الصفا التي مثلت ثورة فكرية محورية.

تقف إلى جانب الفيلسوف العربي الفارابي قامات عالية في الفلسفة والطب والنحو والفيزياء والفلك؛ كابن سينا، أول طبيب يميز الشلل النصفي وأسبابه، ورجل الدولة ابن طفيل، والعالم ابن الهيثم المتخصص في البصريات والفلسفة والرياضيات والفيزياء، وابن باجة الذي برع في الطب والرياضيات، والغزالي الذي صنفت مؤلفاته في الفقه والتصوف والفلسفة، وابن رشد الفيلسوف والطبيب والفقيه والقاضي والفلكي.

مع الأطياف التاريخية للحركة الفلسفية التي عرفتها الحضارة العربية تأتي مجموعة من الفلاسفة، استعاروا اسم ” إخوان الصفا وخلّان الوفا” وعُرفوا في القرن الثالث الهجري في البصرة (القرن العاشر الميلادي)، إذ كانت أفكارهم تتجوهر في التوفيق بين العقائد الإسلامية ومحاولة  توحيدها، ضمن الأطر الفلسفية السائدة في عهدهم، لذلك تنوعت اهتماماتهم في 51 رسالة شهيرة، عُدّت موسوعة للعلوم الفلسفية، كتبوها بين السياسة والفلسفة والفلك والرياضيات والفقه الإسلامي، وعُرف من تلك الجماعة المقدسي والزنجاني والعوفي، وغيرهم من الذين تأثروا وهضموا الفلسفات في عصورهم والساندة لمعلوماتهم وآرائهم الفكرية، كالفلسفة الفارسية واليونانية والهندية.

ويتناول هذه المجموعة الباحث علي أحمد الديري في كتابه الجديد بعنوان “الجسد المجتاز – مجازات الجسد في خطاب إخوان الصفا”، وهو أطروحة أكاديمية تنوعت في مصادرها القديمة والحديثة، ويتوضح فيها الجهد البحثي الواسع لتحقيق فرضية أن “الخطاب الفلسفي جسدٌ مجتاز”، متخذاً من الخطاب الفلسفي لإخوان الصفا أنموذجاً ودليلا على صحة هذه الفرضية.

والجسد المجازي مفهوم قد يكون لغوياً أو فلسفيا، حاول فيه المؤلف أن يربط مجازات الجسد في خطاب إخوان الصفا. وهو ربط افتراضي، لعقد صلة مباشرة أو غير مباشرة بين خطاب إخوان الصفا وبين الفرضية الفلسفية التي يفهمها إخوان الصفا بـالحكمة، وذلك بتأثرهم بالفلسفة اليونانية التي ترى في الفيلسوف حكيماً والفلسفة هي الحكمة لذلك فاضت رسائلهم بمثل هذا التوصيف، وفي ينابيع معرفية متعددة.

الجسد الناطق

الكاتب يتتبع مجازات خطاب إخوان الصفا دون التعويل على أفكارهم ومواقفهم الفكرية

يتتبع علي أحمد الديري في هذه الأطروحة، الصادرة عن دار خطوط بعمّان، مجازات خطاب إخوان الصفا، دون التعويل على أفكارهم ومواقفهم الفكرية؛ بقصد الوقوف على “حضور الجسد والحواس في خطابهم الفلسفي” كونه “مكان إظهار” و”اعتبار” و”تركيب”، فالجسد في صياغات خطاب هذه الجماعة “يُظهر ممكنات النفس”، و”يروض العقل” وبالتالي فإن جلّ الأطروحة تقوم على فقرات متسلسلة عن مفهوم الجسد المُجتاز “الإنسان لا يمكنه أن يفكر بدون الاستعانة بخبرات جسده الحسية” فهو “يعرف العالم من خلال جسده” مستنداً إلى النظرية الحديثة للايكوف وجونسون المبلورة في كتابهما “الاستعارات التي نحيا بها” (1980) والملخصة بـ”جعل الاستعارة تحدث في العقل لا في اللغة” باعتبار أن “العقل لا ينفصل عن تجربة الجسد” بل إن “التجربة العقلية تقع تحت سيطرة الجسد المجازية”.

 معجم الجسد المُجتاز اجتراح شخصي من قبل الباحث، يحتوي على مفردات حسية تكشف عن أن تفكير الإنسان مجازي، وهو ما يميزه عن الحيوان الذي لا يمتلك هذه المفردات، كونها تقع في المنظومة الحسية للبشر. وقد شرحها الباحث شرحاً تفصيلياً معجمياً وتاريخياً وحسياً بهذه النقاط الرئيسية وتفريعاتها الشخصية والعامة، وبالاستدلالات القرآنية والتراثية والقاموسية المعجمية، قبل أن يصل إلى تعريف الجسد المجاز.

النقطة الأولى هي الكلمة وهي مشتقة من جسد الإنسان، من الجرح الذي في جسده، ومن الشق الذي في وجهه تحديداً. ووجه الإنسان هو الأكثر دلالة على حقيقته، والمقصود من هذا النوع المجازي هو أننا نفهم الكلام من خلال تجربة “شق الفم” فيتكلم اللسان عبر شق الفم، والكلمة “التي لا تجرح لا توجِد” فالجرح “أصل الحياة” بيولوجياً، بل هو أصل الكلام. والجسد “جهاز قول. مهمته أن يُخرج ما هو مخفي في الإنسان بأقوال أعضائه”.

ثم نجد نقطة النطق وهو “يشق الشفتين”، والإنسان بالتالي “حيوان ذو نطاق. ينطق بحدود ما يشق كلامه”. والنقطة الثالثة هي الخطاب الذي يكون بالاجتياز، والجسد يحمل إمكان إضاءة، وإمكان خطاب.

ونجد نقطة أخرى في معجم الجسد هي منعطف الخيال، إذ هنالك فلاسفة احتقروا الجسد، لإعلاء شأن العقل. غير أن فلاسفة كوجيتو الجسد “أعطوا للجسد قدرة على التفكير” وصار الجسد “ذهناً كبيراً”، والكوجيتو هو عماد فلسفة ديكارت في الشك “أنا أفكر إذن أنا موجود” بالاعتماد على التفكير وصولاً إلى اليقين. ومثل هؤلاء الفلاسفة “أعطوا للخيال قدرة على التفكير” وأن الجسد قادر على أن يفكر ويتذكر ويقرر. أي أن الجسد “شخصية” قائمة بذاتها. وبتعبير سارتر “الجسد.. هو واقعيتي أن أكون في وسط العالم”، وكان القدماء من المفكرين يتصورون أن الخيال يقع ضمن الدماغ.

الكاتب يتتبع مجازات خطاب إخوان الصفا دون التعويل على أفكارهم ومواقفهم الفكرية

النقطة الخامسة هي منعطف النقد، ففي مجال دراسة الأثر الأدبي وجد النقد في المجاز “بؤرة جمالية” تحت مسميات “الانزياح، الأدبية، الجمالية، مسافة التوتر، والشعرية” بغرض اكتشاف “أسرار اللغة الأدبية وطريقة توليدها للمجازات”، كذلك الفلسفة التي أخذت “تعيد اعتبارها للغة” بوصفها “فاعلية من فاعليات الإنسان المعبّرة عنه”، وبمقتضى هذا وجدت الفلسفة مع العلوم الإنسانية المختلفة أن الفكر والحقيقة لا يمكن تجريدهما من الصيغة اللفظية، فالفلسفة بيان الكلمات.

ونجد نقطة منعطف الذهن الكبير، إذ أحدث نيتشه انعطافاً مهماً حين عرّف الحقيقة بأنها “حشد مضطرب من الاستعارات والمجازات المرسلة”، وهي من اعتبارات أن الجسد “الذهن الكبير” وأن “بنية العقل نفسها تتشكل عبر تفاصيل التجسد”، والعقل “ذو طبيعة ارتقائية تطورية” وأنه ليس جزءاً من “بنية الكون” و”ليس واعياً تماماً” و”ليس خالصاً” وأنه “مرتبط بالعواطف”.

لفهم الجسد المُجتاز يعكف الباحث على التفريق بين الجسد بوجوده الفيزيائي والبيولوجي، والجسد كخطاب. ويرى أن خطاب إخوان الصفا له تجربته في استخدام الجسد المجتاز، التي من خلالها شيّد حقائقه عن الوجود والعالم، ومن التفريق بين الجسد والجسم معجمياً كما درجت المعاجم العربية على إيضاحه وكذلك الفلسفات.

وتبقى مقتضيات الاجتياز محكومة بأن الجسد “ليس شيئاً مستقلاً أو منفصلاً عن العقل أو الروح أو النفس، وأن الإنسان لا يستطيع الهيمنة على جسده، فهو “داخله وليس خارجه” لهذا فهو “يدرك ما بداخله”، وعليه فإن المجتاز من الجسد هو “أنا تدرك نفسها”. ويصل الباحث إلى أننا “نقع في سحر اللغة لمجازاتها ذات الوجوه المتعددة”، أي أن المجاز “آلية ذهنية يبني من خلاله الإنسان تصوراته لهويات الأشياء”، لذا عدّ أرسطو استعمال المجاز “من علامات العبقرية الفردية أو الجماعية”.

الجسد في الخطاب الإخواني

الأطروحة تربط العلاقات بين الجسد والروح والنفس وما فيها من وأسرار عبر اللغة ومجازاتها وتأويلاتها عن إخوان الصفا

الدقة التي اتبعها الباحث في التعريفات والاستنتاجات والأمثلة توصلنا إلى شروحات إضافية، معزِّزة جوهر الأطروحة المتسمة بربط العلاقات بين الجسد والروح والنفس، وما فيها من خفايا وأسرار، عبر اللغة ومجازاتها وتأويلاتها عن إخوان الصفا. فـ”الظاهر يدل على الباطن” و”المكشوف على المستور” و”المحسوس على المعقول”، فإخوان الصفا يضعون “استعمال الدماغ ضمن الجسد” و”النفس تستخدم الدماغ بوصفه جزءاً من الجسد” وتعريف النفس بأنها “جوهرة روحانية” و”مرآة بالجسد، أي أنها مكان إظهار خبراتها الجسدية”.

 ويسمي إخوان الصفا كل هذا “الحياة الجسدية”، أي أن الجسد “مكتب النفس، فيه تتعلم وتتأدب وترتاض” و”يدخل الإنسان العالم بجسده” و”لن تكون في العالم الآخر إلا بجرأة مغادرة هذا الجسد” لأن الجسد “محتوى للعالم، أو العالم مُحتوى في الجسد”. ويمضي الباحث في إطلاق تعريفات أخرى في هضمه للمعاني الإخوانية للجسد ومفهوماته، وعلاقته بالعالم الدنيوي والعالم الآخر، فالجسد “وحدة قياس جامعة” و”جهة من جهات معرفة الإنسان”.

ويجد الباحث أن هناك علاقة واضحة بين فهم إخوان الصفا للعالم عبر المجاز (الطريق)، في قولهم إن ما في العالم منطوٍ في الإنسان، وبين ما قاله أرسطو طاليس في كتابه “أثولوجيا” مفاده أن العالم كالحيوان الواحد. لكن إخوان الصفا لم يجدوا جزءاً صغيراً من جميع أجزاء العالم “أتم بنية، ولا أكمل صورة من الإنسان”، فالإنسان في خطابهم “جملة بليغة النظام والدقة والصنع والتركيب”.

العدد الفيثاغوري والطوق

Thumbnail

مدرسة فيثاغورس الفلسفية هي أول من استخدم العدد في التفكير الفلسفي 0 حول أصل الكون، واختلفت أحادية إخوان الصفا عن واحدية الفيثاغوريين، فهو “مجاز” يرون من خلاله “مفهوم التوحيد لا مفهوم الله”، فالله “تكفل النص القرآني بتحديده”، وبالرجوع إلى الفيثاغورية والفلسفات اليونانية سنرى أن البحث عن “الأصل” في المادة قد خضع إلى وجهات نظر.

طاليس قال بالماء، انكسمانس قال بالهواء، هرقليطس قال بالنار، أنبادوقليس قال بالماء والهواء والنار والتراب، طاليس اعتبر كل شيء مملوءا بالآلهة، الفيثاغوريون قالوا إن الواحد هو الجوهر، فيثاغورس رأى أن الموجودات أعداد وأن العالم عدد ونغم، أما إخوان الصفا فقالوا إن العدد هو كمية صور الأشياء في نفس العاد، أما المعدودات فهي الأشياء نفسها. وهم  يرون في آلة العود انسجام العالم وتناسبه وجماله. وهو أنموذج رياضي متكامل ومتقن. وهو يناسب الطبيعة الكونية المحكومة بنسب رياضية. وهذا هو المجاز في فلسفتهم.

ويمكن أن نتفهم بعض فلسفة إخوان الصفاء من خلال “طوق الصفاء” وهو “الجمال الخالد أو الزينة الروحية”، ويحسن بنا أن نحدد هذا الطوق الروحي ببضع نقاط تسهيلاً لقراءته؛ أولا يكون صفاء جوهر الإنسان، وطاقة الفلسفة هي العلاج للإنسان. ثانيا رصد الماضي البعيد، حتى قبل خلق آدم، والمستقبل الذي يعتمد القرانات في كل 3840 سنة مرة، وفي كل 7000 آلاف سنة، والأشياء التي تُدرك بالحس في وقت تكوينها.

النقطة التالية أن تبقى حدود طاقة العقل محكومة بما يمكن للحواس بلوغه وما يمكن للعقل تصوره، ثم بحسب ما تنتج النفس من إمكانات الحواس والجسد، وهي صورة الإنسان المكونة من الجسد الذي هو القوة. فالحياة غير ممكنة دون الجسد.

النقطة الخامسة هي طاقة الاشتياق التي تتوافر في الكون تدفع كل جزء فيه بحسب طاقته نحو التشبه بالجزء الأكمل منه. ثم تأتي طاقة التشبه وتعمل على صياغة الكون في نظام متسق ومنسجم ومتدافع نحو الكمال.

ويستخدم إخوان الصفا مجاز النور للتعبير عن فيض العقل. فالأشياء تكون عبر قبول قوتها بفيضه. أما أنموذج النور فهو فائض من الشمس وليس جزءا منها، ونموذج الكلام من المتكلم وليس جزءاً منه. ولهذا فإن العالم ليس مستقلاً عن الله بسبب استمرار الفيض.

كما يقرون بأن الفيض يُوجد الأشياء ولا يجِدها. بمعنى أنه يخلقها من العدم ويخترعها. بينما يتحرك الفيض عمودياً من الأعلى أو الأدنى من مطلقات الأمور الإلهية الروحانية إلى محدودات الأمور الطبيعية والنفسانية، ليركّب إخوان الصفا نظرية الفيض من خلال مخطط الاحتواء ومجازاته: مجاز الضوء والهواء، ومجاز الدار والكلام والمخاض والكنز والرجل الخير.

12