ثقافة الصفيح

تجاهد دول عربية محدودة الإمكانيات لتغيير وجوه الأحياء الفقيرة المحيطة بمدنها من أحياء الصفيح إلى أحياء لائقة، وتجد في ذلك عناء كبيرا.
لكنها لا تلتفت إلى أن تلك الأحياء قد صنعت ثقافة من صفيح تحتاج هي بدورها إلى تطوير وتعديل وتحسين للواجهة.
المدن العربية العريقة ظلت لعقود ماضية تمتلك ثقافة خاصة في تفاصيل حياتها اليومية، فيها مراوحة غير متكلفة بين الأصالة والحاضر، ونجت بفضلها من سطوة الثقافات الغالبة التي حملها الاستعمار. والكثير من سكان تلك المدن كانوا يتكلمون بطلاقة لغة البلد المستعمر وتفاعلوا مع ثقافته ونظامه في التعليم والفن والطبخ، وفي الوقت نفسه حافظوا على تفاصيل هويتهم.
لكن الآن اختلفت الأمر. الوافد الجديد على المدن العريقة الماسكة بقيم الحضارة والمدنية هو نظام التفاهة الذي أطبق على خصوصياتها واستجلب لها تفاصيل جديدة صارت تلهث وراءها. صارت تطارد ثقافة جديدة وفنا جديدا وسينما جديدة ونظام أكل جديدا.
كلها على مقاس اللحظة لا تحتاج إلى تراكم ولا معايير ولا أذواق، إذ يمكن لساكن المدينة الجديدة أن يستمع كل يوم إلى مئات الأغاني بنفس الريتم ونفس الكلمات الجافة من المعنى والمشاعر التي كانت تملأه في عقود ماضية حين سماع الأغاني.
المفارق هنا أن هذه الأغاني المسلوقة سلقا يسمعها ويشاهدها الملايين من الناس في اليوم الواحد وتجلب الأموال الكثيرة لصاحبها، فيما كانت الأغاني في السابق لا تقاس بحجم عائداتها من يوتيوب وإنستغرام بل تقاس بأذواق سامعيها ونقادها.
صارت المدينة العربية القديمة، كما الأحياء الفقيرة من حولها، والأرياف البعيدة تتنافس للانفتاح على العالم الجديد، وتغرف منه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا في تناغم بذات الوقت مع مدن غربية بعيدة عنها. نحتفي بالأغاني والحفلات نفسها وننشد إلى الفضائيات لنتابع مباريات الكرة وأخبار نجومها وتفاصيل حياتهم.
لم تتسلل هذه الحياة الصاخبة فقط إلى عامة الناس، وخاصة الفئات الشبابية التي تحاول أن تعوض بهذا الانفتاح والهرولة إليه على حياة الفقر في بلدانها، وغياب استراتيجيات وطنية لبناء حياة عربية كريمة. بل تسللت إلى المثقفين والفنانين والجامعيين وصانعي الأجيال الذين وجدوا أن مقاييسهم القديمة لم تعد ذات معنى ولا تقدر على جلب الأنظار إليها بعد أن باتت غريبة.
العولمة التي ابتلعت كل شيء لا شيء يوقفها في منطقة عربية إسلامية مازالت تعيش على الماضي، وقد تجد في نظام التفاهة وغياب المعنى فرصتها كي تتخلص من ضغوط التغيير وتحديث القيم والاندماج في العولمة من موقع الفاعل. ثقافة الصفيح هي أن تترك نفسك للريح تأخذك هي حيث تريد.