جيلان يتبادلان الأدوار.. آباء منفتحون وأبناء محافظون

الصراع بين الأجيال مبدأ راسخ على امتداد التاريخ البشري، ويتجسد بشكل خاص في المجال الثقافي، إذ ينازع كل جيل جديد الجيل الذي سبقه لترسيخ التجديد والتجاوز، وهو نفس ما ينعكس على المشهد الاجتماعي ككل، لكن في السنوات الأخيرة بتنا نشهد العكس، حيث الأجيال الجديدة تميل إلى الانغلاق ما يمثل رحلة عكس المسار الطبيعي.
ابني “دقة قديمة”.. عبارة قالها مثقف ستيني أمام أصدقائه في المقهى وهو يبتسم بانكسار ومرارة معلقا على سؤال أحدهم باستغراب “هل حقا هذا ابنك؟”.
حدث ذلك حين كان الابن العشريني يمرّ من أمام المقهى عائدا مع أصحابه الملتحين من المسجد بثوبه الأفغاني وهو يتأبط كتابا من التراث السلفي، ويرمق أباه بنظرات فيها شيء من الامتعاض والاستياء.
نعم، إنه يخجل أمام أترابه لحالة أبيه “غير الملتزم دينيا وهو في مثل هذه السن”، ويدعو له بـ”الهداية والتزام سلوك المؤمن الصالح”، كما يؤكد الأب لأصحابه في المقهى في نوع من المرارة والتشكي.
وهنا يزيد أحد مجالسيه بأنه يعاني ذات الشيء مع ابنه المتزوج من امرأة منقبة، وكيف يصطحب ابنه البالغ 4 سنوات إلى مسجد الحي، مما حرمه من الاستمتاع بوقت رائق مع حفيده في الحديقة العامة كل مساء.
نظر الرجلان إلى بعضهما بنوع من الشعور بالإحباط متسائلين عما حلّ بهذا الجيل وهما الكاتب والموسيقي اللذان حاولا تربية أبنائهم على حب الفن والأدب دون جدوى فمن أين جاء هذا الخلل، وكيف تسرب الفكر السلفي إلى بيت عامر بالكتب الإبداعية والآلات الموسيقية؟
وأضاف كل منهما أنه ظل حريصا على تلقين أولاده التربية المنفتحة وترغيبهم في الإقبال على مباهج الحياة العصرية الحديثة، ومع ذلك فوجئ الرجلان بعكس ما كانا يتوقعان تماما.
ارتداد الأبناء

هناك أزمة ذائقة وقيم جمالية بدأنا نفتقدها مع أفول الجيل القديم
لم تعد هذه الحالة فريدة من نوعها على امتداد العالم العربي، بل صارت متوقعة وشبه مألوفة، لكنها لم تأخذ نصيبها من المعالجة الرصينة في الدراسات السوسيولوجية الحديثة، ولا في الأعمال الدرامية والأدبية.
وإن وقع التطرق إلى هذا الأمر فبنوع من التسطيح أو العاطفة الجياشة كالرواية التي صدرت من سنوات للكاتب المصري عمار علي حسن تحت عنوان “السلفي”، رغم أنها لقيت استحسانا لافتا إن كان من جانب الجمهور أو النقاد.
وتحكي الرواية مأساة أب منفتح يحاول استعادة ابنه المغرر به من قبل الجماعات السلفية الجهادية. ويعرض فيها الكاتب نزالا شيقا بين الإسلام الوسطي المنفتح والإسلام الأصولي المتزمت.

جيل يميل إلى العنف والتشدّد (لوحة للفنان مهند عرابي)
هذه الصدمة الحضارية تعبر عن انتكاسة حقيقية تعكسها خيبة أمل في جيل كنا نظنه حاملا لمشعل المستقبل بحكم اطلاعه وتمكنه من الثورة الرقمية، لكن ما حصل هو أنه أمسك بمفاتيحها ووضعها بصورة عكسية فلعب هذا الاطلاع دورا عكسيا، وتسبب الانفتاح التكنولوجي في انغلاق اجتماعي وثقافي وحضاري.
كانت المواضيع والقضايا المثارة في ستينات وسبعينات القرن الماضي هي استحالة العيش في جلباب الأب، والإقدام على خوض مغامرة الانفتاح ومواكبة العصر بكل مخاطر التنكر للهوية والجذور، أما اليوم فالحالة صارت عكسية تماما.
صار الآباء يدفعون أبناءهم دفعا نحو الانفتاح على العصر ومجاراة موجات التقدم والانخراط في ثقافة تبشر بقيم التسامح وتنبذ العنف والتطرف والانغلاق.
“الدقة القديمة” كما تقول العامة لم تعد الآباء بل الأبناء الذين لا يريدون العيش في بدلات آبائهم الإفرنجية الأنيقة الحديثة بل يحبذون البقاء في “جلاّبياتهم” التي اختاروها عن طيب خاطر على الرغم من تمكنهم واطلاعهم على مفردات العصر وإنجازاته الرقمية.
تفتح صفحات الأجيال الجديدة على الإنترنت فتجدها تعج بالغيبيات والماورائيات إلى جانب التدوينات المحرضة على العنف والكراهية، بالإضافة إلى دورها الاستقطابي والتجنيدي في صفوف الجماعات المتطرفة.
والمفارقة الأغرب أنك تفتح صفحات جيل الآباء على مواقع التواصل الاجتماعي فتجد أغلبها ينضح موسيقى راقية ومختارات معرفية قيمة مما يقيم الدليل على أن الزمن الجميل هو فعلا خلفنا وليس أمامنا، وأن القادم قد يكون أتعس بكثير من الحاضر والماضي.
أزمة متشعبة

الأزمات السياسية والاقتصادية وعقم المشروع الثقافي عوامل أدت إلى الشرخ الذي باعد بين الآباء والأبناء
واضح أن هناك أزمة ذائقة وقيم جمالية بدأنا نفتقدها مع أفول الجيل القديم على الرغم من كل هزائمه وخيباته فهل بتنا نبكي زمنا كنا في الأمس القريب نبكي منه؟
هذه الردة المعرفية والحضارية لم تأت من فراغ ولا مجهول كما هو معروف بل تشترك في صناعتها عوامل كثيرة ومتشعبة، وتسبب في حصولها الجيل القديم نفسه حين فشل في إقناع الجيل الجديد بصحة ما اهتدى إليه رغم أزماته وضبابية الرؤية التي كانت ترافق حراكه ونشاطاته.
الأزمات السياسية والاقتصادية وعقم المشروع الثقافي، عوامل أدت بدورها إلى هذا الشرخ الذي باعد بين الآباء والأبناء، بالإضافة إلى أزمات كونية غذت الانقسام والتطرف والنزعات العنصرية.
ما نشهده اليوم من تصاعد لموجات التشدد والانغلاق ينذر بكوارث اجتماعية تتجاوز مجرد الاستياء من فيلم سينمائي عادي المحتوى غير أن فيه شيئا من الواقع لا بل أقل من الواقع بكثير.
ظاهرة الردة المعرفية والثقافية لم تأخذ نصيبها من المعالجة الرصينة في الدراسات السوسيولوجية ولا في الأعمال الفنية
موجة التشدد التي تجتاح المجتمع المصري على سبيل المثال، والتي تعبر عنها صرخات الغضب والتهديد والوعيد للفنانين، هي المثال القاتم القاتل على هذه الردة الحضارية المرعبة، إذا علمنا بأن أفلام الخمسينات والستينات وحتى السبعينات كانت أكثر جرأة من الآن بآلاف المرات، ومع ذلك لم تقم أي دعوى ضد منتجي تلك الأعمال الفنية.
مشهد الأب الذي يعاتبه ابنه في المقهى على عدم التزاماته الدينية كان عكسيا تماما في العقود الماضية، فكأن أماكن اللهو والمنتزهات صارت مخصصة للآباء دون الأبناء. وهي مفارقة إلى حدّ السخرية والضحك مما آلت إليه الأمور.
المؤكد أن المسألة هيكلية تتعلق ببنية التفكير وآليات التفاعل مع الواقع المستجد، وإلا كيف يحدث هذا التشوه الثقافي الذي أصاب الأجيال الجديدة فمن لم يكن متطرفا منها، نزع نحو المخدرات وحبوب الهلوسة والجريمة المنظمة. يبدو أننا فقدنا الاعتدال وألمت بنا كارثة التأرجح والترنح.